الفضيل الورتلاني يوم أن احتفت به القاهرة
أ. محمد بسكر/
عندما نتحدث عن الأستاذ الفضيل بن حسنين الورتلاني، فإنّنا نستحضر قول الشاعر محمد العيد آل خليفة: (إنّ الجزائر لم تزل في نسلها…أُمًا ولودًا خصبة الأرحام )، فهو شخصية علمية ذائعة الصيت، وشخصية قيادية من الدّرجة الأولى في مجال العمل السياسي والدعوة الإسلامية في العصر الحديث، حقيقةٌ يعلمها كلّ باحث في تاريخه، فنضاله السياسي داخل وخارج وطنه ينبض بمكانته الرفيعة في الوطن العربي، ومع ذلك أدركته عزلة مقصودة لكونه إسلامي النّزعة، فلم تشفع له تضحيته بحياته وأسرته، وتشرده من أجل بلده الذي نافح عنه في مقالاته الكثيرة التي هاجم فيها سياسية المستعمر الفرنسي.
ما يميز المجاهد الفضيل الورتلاني عن بقية أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كونه صاحب أفق سياسي واسع، ورؤية قومية تخطّت حدود وطنه، فلا يقارن في نشاطه إلّا بجمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد عبد الكريم الخطابي، هاته القامات العلمية التي دافعت عن قضايا البلاد الإسلامية، فكان عطاؤها يثمر حيث حلّت.
قيمة المجاهد الكبير الفضيل الورتلاني الفذّة، وتجربته في المشرق العربي النادرة، عرفها من خالطه في هذه المرحلة التي شهد فيها العالم الإسلامي انبعاثا سياسيا وتحوّلات كبيرة للخلاص من الاستعمار، وحسب شهادة العارفين بجهاده، فإنّه كان ثورة على الاستعمار والاستبداد والفساد، قال محمد الشافعي صادق العناني: «كان الشيخ الفضيل ثورة متحركة لا في زمانه، وطاقة جبارة لا يستطيع أن يستوعبها إلّا من عمل معه»، وقال عنه الشيخ الصالح بن عتيق: «إنّ الفضيل لم تلد أم مثله»، وسبق أن أشاد به الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وكتب شهادته عنه في جريدة البصائر، ووصفه بالابن البار لجمعية العلماء المسلمين، «تربى في أحضانها، وتخرّج في العلم والعمل على قادتها».
اكتسب الفضيل الورتلاني في مرحلة تكوينه عن الشيخ عبد الحميد بن باديس قوة الكلمة، وصلابة الموقف، والثّبات على المبدأ، فكان ابن باديس «يُقدّر له- وهو في الحداثة- عواقب الرجال، ويتخيل فيه مخايل الأبطال، ويقول له كلّما رأى منه مخيلة صدق: (لمثل هذا كنت أحسيك الحسا)». مَثَّلَ جمعية العلماء بباريس سنة 1936م بأمر من ابن باديس، فتمكّن خلال أشهر أن يؤسّس أكثر من 17 ناديا، وجمع حوله الكثير من الأتباع، بفصاحة لسانه، ومتانة حجّته، وقوّة شخصيته، ومقدرته في ارتجال الخطاب واختيار أليق الألفاظ، «فالخطابة أحد العناصر الأولية البارزة، التي نبغ بها في فرنسا والمشرق العربي». طاردته المخابرات الفرنسية وازدادت مضايقات الإدارة له وسعت في اعتقاله، فغادر باريس إلى القاهرة سنة 1938م، ليبدأ نضاله من أجل قضايا الوطن العربي والإسلامي، تتعلّق بليبيا وتونس والمغرب وفلسطين، وقام بعدة نشاطات سياسية مناهضة للاستعمار، فتخطّت سمعته مصر إلى غيرها من البلدان، حتى أصبح يدعى بالمجاهد الكبير الفضيل الورتلاني، ولم ينس المجاهرة بالدّعوة لتحرير الجزائر والمغرب العربي عموما من الاحتلال، فشارك في تأسيس لجنة الدفاع عن الجزائر سنة 1942م، وعمل ضمن جالية المغرب العربي التي أسّست تنظيمات لخدمة قضايا بلدانهم، كجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا برئاسة الشيخ محمد الخضير الحسين سنة 1944م، فكان الورتلاني سكرتيرها العام، وبتاريخ 17 فبراير 1955م ساهم في تأسيس جبهة تحرير الجزائر، وهي جبهة تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ممثلا لجمعية العلماء، وبعض ممثلي حزب جبهة التحرير، أمثال أحمد آيت حسين، ومحمد خيضر وأحمد بن بلة.
تنقل الورتلاني بين دول كثيرة أوروبية وآسيوية، واحتك بجماعة الإخوان المسلمين وتأثر بفكرهم ودعوتهم، فاختاره مرشدها العام «الحسن البنا» مبعوثا للجماعة إلى اليمن، وتعرض بسبب ذلك لمحن قاصمة للظهر، لمّا قامت ثورتها التي اضطهد فيها الكثير من العلماء ورجال السياسة، وأدّت إلى مقتل ملك اليمن (يحي حميد الله) بتاريخ 17 فيفري سنة 1948م، واتّهم فيها بأنّه طرف في تأجيجها، فخرج من اليمن قبل سقوطها بثلاثة أيام، وأصدرت السلطة اليمنية عليه حكما بالإعدام بحجّة مشاركته في الانقلاب، كان خروجه من اليمن على ظهر سفينة مصرية تسمى الزمالك، غير أنّها تحولت إلى محبس له، فبقي على متنها ولم يسمح له بالنزول منها بأمر من ملك الأردن عبد الله، وملك مصر فاروق، يقول صاحبه مصطفى الشكعة: «كان أغرب سجن شهده إنسان في هذه الحياة»، وتعاطفت معه الصحف العربية، فكتبت عنه جريدة السلام اليمنية مقالا بعنوان: «الفضيل الورتلاني طريد البلاد العربية»، وبعد تيه آواه رئيس حكومة لبنان «رياض الصلح بك»، فبقي في بيروت من سنة 1948 إلى غاية سنة 1952، وأَدَالَ الله الأيامَ فَبُرئت ساحته من التّهمة المنسوبة إليه، فكتب مذكرات مختصرة عن اليمن وأحداثه، وهي عبارة عن خطوط عريضة حسب تصريحه، غير أنّها لم تر النور ممّا حرمنا الكثير من المعلومات التاريخية.
بعد خمس سنوات قضاها شريدا مطاردا من الأنظمة العربية عاد إلى القاهرة سنة 1952م بعد قيام ثورتها ونجاح الضباط الأحرار في إسقاط حكم الملك فاروق، فتألّفت لجنة في القاهرة مكونة من الأدباء والمفكرين والسياسيين للاحتفاء به، على رأسها محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء، ومحمد عبد اللطيف دراز وكيل الجامع الأزهر، ومحمد بدرة وزير الشؤون الاجتماعية بتونس، ومحمد محمود الزبيري وزير معارف اليمن وغيرهم، وأشرف على تأطير الحفل الصحفي الفلسطيني الأستاذ محمد علي الطاهر، ووجّهت لجنة الاحتفال دعوة لرجال العلم والسياسة من مصر والعراق واليمن وتونس والمغرب الأقصى، جاء في نصّها: «بمناسبة عودة المجاهد العربي السّيد الفضيل الورتلاني إلى الديار المصرية من المنفى ومن رحلاته وجهاده السياسي في البلاد الإسلامية، تتشرف لجنة الاحتفال بتكريمه بدعوة حضرتكم… بفندق سميراميس في السّاعة الخامسة بعد ظهر الجمعة 28 نوفمبر 1952م». وحضور الكثير من الأسماء الرفيعة في عالم الدين والسياسة والفكر، واستجابتهم للدعوة دليل على شعبية الورتلاني، فقد أشاد المتحدثون من الأدباء والشعراء بدوره في القضايا العربية، وجهاده من أجل النهوض بالأمة وخاصّة وطنه الجزائر، الذي كتب عن واقعه في الجرائد العربية كجريدة الحياة، وبيروت، والمنار، والصباح، والمساء، والكتلة ومجلة (الإخوان المسلمون)… وغيرها.
وإذا كانت الأقدار طوّحت به في الأصقاع وأبعدته عن وطنه، فإنّ الحظّ لم يبتسم له ليتنسم هواء الحرية ويرى بلده ينعم بالاستقلال، فوافته المنية وحيدا بتركيا بتاريخ 12 مارس 1959م، وأصعر النّظام السياسي خدّه عنه، وتنكّر لجهده وجهاده، ولم تلتفت أنظار المسؤولين إليه، واستكثروا عليه جلب جثمانه لوطنه، فبقي حبيس غربته 28 سنة إلى أن أحضره نجله سنة 1987م، وواراه التراب في مسقط رأسه ببني ورتلان.
توارى عنّا الورتلاني منذ أزيد من ستين سنة، ورصيده الفكري والثقافي لم يأخذ نصيبه من الإحياء والدّراسة، وإنّه لحري بأهل العلم والثقافة أن يخرجوه من دائرة التعتيم، لأنّنا لم نر جهدا جادا لجمع أعماله، إلّا ما قام به نجله الأستاذ مسعود حسنين الورتلاني من جمع لنصوص من تراثه وشهادات العارفين به في كتابه المسمى: «العالم المجاهد الجزائري والدّاعية الإسلامي الكبير الفضيل حسنين الورتلاني»، أو التكريم المحتشم الذي حظي به من جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة سنة 1992م، وسلف للشيخ البشير الإبراهيمي أن أطلق مشروعا لكتاب جماعي بعنوان «كفاح الفضيل الورتلاني»، وطلب من أصدقائه موافاته بمقالات عنه، وقد صرّح الأستاذ مصطفى الشكعة بأنّه كتب مقالة وسلّمها للإبراهيمي في القاهرة، فمن الضروري الآن التّوجه إلى رصيده الفكري الموزّع في الجرائد العالمية، وإذا كان ما كتبه في الصّحف الجزائرية كالشهاب والبصائر متاحا للدّارسين، فإنّ ما حرّره في الجرائد والمجلات المشرقية وما دوّنه المشارقة عنه بعيد عن متناول الباحثين، ويحتاج إلى جهد وعناية من المؤرخين لجمعه وإعادة بعثه.
أشرفت الجمعية الإسلامية اللبنانية سنة 1956م على أوّل جمع لتراثه، في تأليف طبع بعنوان: «الجزائر الثائرة»، احتوى حوارات ووثائق تاريخية نشرها في جرائد مختلفة، وطلبت الجمعية من الأستاذ الفضيل الورتلاني أن يضع مقدمة للكتاب فتمنّع عن ذلك تواضعا، كما نشر له مركز الدراسات والبحوث اليمني تقريرا بقلمه عن اليمن في كتاب بعنوان: «ثلاث وثائق عربية عن ثورة 1948م»، وحسب وصف الدكتور مصطفى الشكعة «أنّ التقرير يقع في نحو ستة وأربعين صفحة»، نشرته مجلة «الإخوان المسلمون» المصرية بتاريخ 3 أوت 1947م، ونقلته عنها جريدة الإصلاح لصاحبها الطيب العقبي، وقدّمته جريدة الإخوان إلى القرّاء بكلمة لمرشدها العام الشيخ «حسن البنا» بيّن جهد الورتلاني في الإصلاح الأدبي والمادي الذي قام به في اليمن، وممّا قاله في شأنه: «وكان للسيد الفضيل من إخلاصه ويقينه وإيمانه ودينه وغيرته على المصلحة العامة للشعوب الإسلامية والأمم العربية، وخبرته الطويلة بهذه الشؤون مع انفساح صدر الإمام أيّده الله… ما شجعه على أن يعالج الكثير من المسائل الشّائكة، وأن يضع بين يدي جلالة الإمام صورة لما يجب أن يكون عليه الأمر مفصلة واضحة».