مقالات

البَاقِيـــــــــاتُ الصَّالِحَــــــاتُ..

عبد العزيز بن سايب/

ساقتني صلاةُ عَصْرٍ إلى جامع الرفاعي بقاسيون، وهو مسجدُ الحيِّ الذي يَقْطُنُ به سيدي الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وشاء الله تعالى أن أكون خلف سيدي الشيخ بصَفٍّ أو صَفَّين.. الذي كان مأموما. وبعد انتهاء الصلاة مَكَثَ الشيخُ في مكانه يأتي بأذكار الصلاة وقد أوشك المسجدُ أن يخلو من المصلين.
وبينما هو في تلك الحال رأيتُ شخصا وَاقِفًا وراءَه يَرقُبُ.. وهو الطبيبُ محمود النَّحْلَاوِي ولم أفهم عِلَّةَ وقوفِهِ ذاك..
ولم أَلْبَثْ أن فَقِهْتُ سِرِّ ذلك القيام.. فكُلَّمَا هَمَّ شخصٌ بالدُّنُوِّ من الشيخِ محمد سعيد رمضان البوطي أو أراد الجلوسَ قربَه أو مُحَادثَته يَصرفُهُ الدكتورُ محمود بإشارةٍ لطيفةٍ بأصابع يَدِهِ تَدُلُّ أن الشيخ مَشْغُولٌ بالتسبيحِ والأذكارِ..
جزاه الله خيرا فهو يُقَدِّمُ خِدْمَةً للشيخِ وأُخرى لذلك الشخص الْمُقْبِلِ عليه..
فالشيخ مُنْكَبٌّ على سُنَّنِ أذكارِ وأورادِ ودعواتِ ما بعد الفريضة..
فلا يَحسنُ أن يَقطعَ عليه إنسانٌ تلك الخلوة بربه..
فإذا كان الشرعُ ينهانا أن نقطع حديثَ شخصين وندخل بينهما بدون إذنهما.. فكيف نَقْتَحِم مناجاةً بين العبد وربه جل جلاله..
أخرج البخاريُّ في كتابه الأدب المفرد: عن سعيد المقبري قال: مَرَرْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَتَحَدَّثُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِمَا، فَلَطَمَ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: «إِذَا وَجَدْتَ اثْنَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ فَلَا تَقُمُّ مَعَهُمَا، وَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمَا، حَتَّى تَسْتَأْذِنَهُمَا».
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا: عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَمَعَهُ رَجُلٌ يُحَدِّثُهُ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمَا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا تَجْلِسْ إِلَيْهِمَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَهُمَا».
قال الحافظ ابن عبد البر في كتابه الحافل التمهيد: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا .
والناسُ بعد الصلاة أصنافٌ.. منهم من يُهَرْوِلُ خارجا من المسجد لأَمْرٍ يَخُصُّهُ.. ومنهم من يجلس في مصلاها مشتغلا بأذكار الصلاة.. ومنهم من يجلس بُرْهَةً ثم يَقُومُ.. فإذا رأى صديقًا أو جَارًا تَوَجَّهَ إليه.. ومن هنا يَبدأ الابتلاءُ..
فمن هؤلاء إذا مَرَّ بشخصٍ رَبَّتَ على رأسه.. وآخرُ يَقبض على كتفِهِ.. وذاك يَقْرُصُهُ مِنْ ذِراعه.. وذلك يُدَغْدِغُهُ في خَاصِرَتِهِ.. وآخر يُوَشْوِشُ في أذنِهِ.. وآخر يطلب منه الدعاء له.. ولعل هذا الأخير أخفُّهم وأَقَلُّهم إِزْعَاجًا..
ومِنهم مَنْ يُقْبِلُ ضَاحِكًا مُستبشرا.. فإذا لم يَجِدْ هَشَّةً وبَشَّةً يَمْتَعِضُ ويَجدُ في نفسِهِ ويُسِيءُ الظنَّ بصاحبِهِ.. والرجلُ مطأطئ الرأس مشغول بأذكاره..
وبعضُهم يَشْرَعُ في حديثٍ معه وهو يراه يعقد بأنامله أصابعه ذاكرا.. وآخر يفتح معه موضوعا.. وهو في كل هذا يُسَايِرُهُم مُجَامَلَةً خَجِلًا.. أو يكاد يتميز غيضا..
والرجلُ في كل هذا يحاول ذكر ربِّه أو يمد يديه داعيا مولاه..
ومِنْ أَشَدِّهم أَذًى الأشخاصُ الذين يجلسون بقُرْبِهِ ويتحدثون بصَخَبٍ.. بل ربما يتمازحون أو يضحكون أو يلعبون.. دون مراعاة لمن بجنبهم من الذاكرين الدَّاعين المتبتلين..
للأسف..البعض بمجرد السلام يتدفق بالحديث مع مَن حولَهِ.. كأنما انفلتَ من عِقَالٍ.. هذا قد يَدُلُّ ـ والعياذ بالله ـ أن عقلَه وكيانَه لم يكن في الصلاةِ وشؤونِها.. بل مُتعلِّقٌ بما بعدَها..
وأكثرُ الناس نصيبا من هذا البلاءِ الأئمةُ.. فلا يكاد أحدُهم يلتقط أنفاسه من السلام حتى يُحْدِقَ به المصلون..
وكذلك خطيبُ الجمعةِ..فبمجرد سلامه من الصلاة يزدحم حوله المجمِّعُون لطَرْحِ أسئلتهم وعَرْضِ انشغالاتهم.. غافلين عن إمْهَالِ الإمامِ فرصةَ القيام بوظائف أدبار الصلاة..
نعم.. ربما جاء شخص للجمعة وهَمُّهُ ذلك السؤال فحسب.. ويريد أن يظفر بالإمام قبل غيره.. ويَخْلُصَ له بسؤاله قبل انكباب الآخرين.. عَلَّهُ يَحْظَى بفرصةِ الخلوة عند طرح السؤال والخصوصية عند بيانه..
وهكذا.. فصاحب الحاجة أَرْعَنُ لا يَرُومُ إلا قضاءَها.. كما يقولون..
أكيد هم يُقْبِلُون بحُسْنِ نيةٍ وطِيْبِ طَوِيَّةٍ.. لكن هذا لا يكفي.. فلابُدَّ أن يلتزم الإنسانُ بآداب الشرعِ ويتحقق بالذَّوْقِ الرفيعِ في التعامل.. ولا يَضُرُّ الآخرين من حيث يريد نَفْعَ نفسِهِ..
قديما قالوا: «المشْغُولُ لا يُشغلُ..»..خصوصا إذا تَعَلَّقَ الأمرُ بالعلاقةِ بين المخلوقِ وخالقِهِ.. والعبدِ وربِّه.. والْمُحِبِّ ومَحْبُوبِهِ الأعلى..جَلَّ جلالُه وتَقَدَّسَتْ أسماؤُه.. فقبيحٌ التشويشُ عليها.. فالانتظارُ عند موضِعِهِ خَصْلَةٌ كريمةٌ، ومع النيةِ عبادةٌ مبرورةٌ..
يا لها من مَكْرُمَةٍ.. فلله دَرُّكَ يا دكتور محمود.. إنها أَوَّلُ مَرَّةٍ أُشَاهِدُ شخصًا أشبه بالحارس الشخصي لآخرَ يمنعُهُ من قَطْعِ الناس له عن أذكاره ومناجاته..
ولا أَدَّعِي أن هذا دَيْدَنُ الدكتور محمود.. وإنما هي واقعةُ حضرتُها أعجبني مَوْقِفُهُ ولَفْتَتُهُ..
والدكتور محمود طَبِيبٌ.. ممشوقُ القامةِ، قويُّ البِنْيَةِ، وسيمُ الطَّلْعَةِ.. خَلُوقٌ، مُستقيمٌ، تَظْهَرُ عليه مَخايلُ الصلاحِ.. مُحِبُّ لآل بيت البُوطي، شديدُ الملازمةِ لسيدي الملا رمضان البوطي.. توفي في بدايات التسعينات في الثلاثينات من عمره عند قوة الشباب وقمةِ العطاءِ.. رحمه الله تعالى..

إنَّ ذكرَ الله جل جلاله من أعظم القُرُبَات وأشرفِ الْمَبَرَّات.. وقد فَسَّرَ بعضُ العلماء قولَه تعالى في سورة الكهف ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وخَيْرٌ أَمَلًا﴾ بأنها الأذكار..
منهم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سئل عن المراد في الآية، كما في مسند الإمام أحمد:.. فَمَا الْبَاقِيَاتُ الصالحات، يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: «هُنَّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» .
وجاء في بعض الروايات مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند وغيره ـ ولم تخلو من مقال ـ عن أبي سعيد الخدري والنعمان بن بشير رضي الله عنهم .
وهو قول سعيد بنِ المسيِّب من سادات التابعين، أخرج الإمام مالك في الموطأ عنه أَنَّهُ قال فِي «الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ»: «إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
قال الزُّرقانيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَهَا بِالْفَانِيَاتِ الزَّائِلَاتِ فِي قَوْلِهِ: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .
فاللهم اجعلنا من الذَّاكِرين لك كثيرا والذَّاكِرات.. واصْرِفْ عنا بفضلِكَ وقُوَّتِكِ كلَّ الشَّواغل عن ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسْنِ عبادتكَ..
كتبه عبد العزيز بن سايب . عفا الله عنه .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com