عوائق النهضة: تفكك «شبكة العلاقات الاجتماعية»
د. بدران بن الحسن */
يبلغ المجتمع فعاليته القصوى في طريق تحقيق نهضته متوقفا – كما يقول مالك بن نبي- على «الحالة التي يحقق فيها هذا المجتمع أفضل الظروف النفسية الزمنية لأداء نشاطه المشترك. وهذا يحدث بوجه عام عندما يكون المجتمع في حالة النشوء: كالمجتمع الإسلامي في العهد المدني، وكالمجتمع المسيحي في مغارات روما، إذ إنه في هذه الحالة يحقق أرفع درجات الاندماج والانسجام، فيكون التوتر الأخلاقي قد بلغ ذروة درجاته» (ميلاد مجتمع 37). ولذلك تمثل تجربة الجيل الأول في امتنا تجربة قدوة لأنها تتحقق فيها أعلى مستويات الانسجام الروحي والفكري والأخلاقي والاجتماعي، مما جعلها تجربة تحقق الفعالية القصوى في كل ما قامت به من منجزات.
ولعل هذا يتمثل في عقد المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» (رواه الشيخان). وهو «يعكس حالة المجتمع الإسلامي الأول، حين حقق بالمدينة نموذج المجتمع المنسجم في طبقة واحدة، وكان كل فرد مرتبطاً ارتباطاً واقعياً بكل الآخرين من أعضاء المجتمع بوساطة علاقات شخصية» (ميلاد مجتمع 38-39).
ولكن المجتمع يفقد فعاليته، ويدخل في طريق التخلف والتفكك والعطالة عن أي إنجاز تاريخي، لما يصل إلى وضع يفقد فيه هذا الانسجام بين أفراده كما يفقده بين منظومته الفكرية والقيمية والروحية. «فيتفرق أفراده ذرات، ويصبح في نهاية تحلله عاجزاً تماماً عن أداء نشاطه المشترك» (ميلاد مجتمع، 37).
وهذا مؤشر خطير على أن المجتمع متعرض للهلاك. بالرغم من أن هذا المجتمع يكون متخما «بالأشخاص والأفكار والأشياء» (ميلاد متجمع، 41)، ولكن بلا جدوى.
ولعل هذا ما يشير إليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَداعى عليكم؛ كما تَداعى الأَكَلةُ إلى قَصْعتِها. فقال قائلٌ: ومِن قِلَّةٍ نحنُ يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، ولَينْزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدُوِّكم المهابةَ منكم، وليَقذِفنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهَنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوَهَنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا، وكراهيةُ الموت» (أخرجه أبو داود).
وهو حديث يعبر عن حالة من الموت الوظيفي وحالة من «التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي»، حين «أصبح عاجزاً عن أي نشاط مشترك» (ميلاد مجتمع، 41). وهذا ما يسميه مالك بن نبي رحمه الله تحلل شبكة العلاقات الاجتماعية، وهو واحد من العوائق الكبرى في طريق تحقيق نهضتنا الحضارية من جديد.
ويظهر تحلل شبكة العلاقات الاجتماعية في تمزق البناء الاجتماعي للأمة، وسيادة النزعات القومية والعشائرية والفئوية، وسيادة النزعة الفردية في المجتمع، مما يؤدي إلى انعكاس بوصلة الانتماء، وقلب لمعيار القيم، وتعارض مصالح الأفراد والجماعات فيما بينها، فيحدث الاصطدام الداخلي الذي يقضي على العمل التكاملي الجاد بين افراد المجتمع، وبين مكوناته المختلفة، فيتحول التنوع الذي يقود إلى ثراء تجربة المجتمع، إلى تناقضات تسبب التنازع والتمزق، ويؤدي ذلك كله إلى إهدار الكثير من الطاقات الاجتماعية وصرفها فيما لا جدوى منه.
كما تتعاظم الانشغالات الشخصية على حساب الانشغالات العامة، ويغرق كل إنسان في مفرداته الخاصة وينسى أنه «اجتماعي بطبعه» من جهة، وأنه جزء من مجتمع يقع عليه واجبات عليه الوفاء بها نحو مجتمعه من جهة أخرى. ولذلك، فإنه كلما زادت غلبة النزعة الذاتية على النزعة الاجتماعية زاد تحلل شبكة العلاقات الاجتماعية ونقصت الفعالية الاجتماعية، وكلما نقص الدافع إلى العمل المشترك تقلصت الفعالية الاجتماعية وزاد النزوع نحو الفردية أي الأنانية وحب الذات… فزيادة الفردانية في مساحات أي مجتمع مؤشر على غياب الفعالية الاجتماعية والعمل المشترك وتحلل شبكة العلاقات الاجتماعية (نورة السعد، 2008).
وقد غذى هذا «المرض الاجتماعي» الذي هو تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية عاملان أساسيان؛ أولهما تراكم فكر الانعزال عن المجتمع، والانشغال بالذات، عن طريق بعض التيارات الفكرية والاجتماعية والروحية التي انتجها تطورنا التاريخي؛ كبعض اتجاهات التصوف التي بالغت في ذم الدنيا ودعت الى الانعزال عن الناس وتجنب اذاهم، كما ساهمت فيه السلطة السياسية التي قلصت من حرية الحركة الاجتماعية ومن تفاعل المجتمع مع قضاياه، وتفاعل مجتمعات المسلمين فيما بينهم، فبدل ان يكون هناك «تواد، وتراحم، وتعاطف، وتكافل»، صار هناك «عليك نفسك»، وانشغل بأمورك ودع الناس لرب الناس، واهتم بدائرتك الصغرى … ألخ. اما العامل الثاني فهو النفايات الأيديولوجية التي تسربت إلينا من تجربة الفردانية الغربية، معزولة عن سياقها، فتحولت إلى «فكرة قاتلة» لكل تراحم وتعاطف وتواد وتكامل بين أفراد الامة، مما غذى النزعة الفردية، والمبالغة في تجاهل الآخرين وعدم الاكتراث بأوضاعهم.
وجوهر سبب المشكلة في تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية الذي يتجلى في العلاقات بين الأفراد، يكمن «في فيما يصيب الأنا عند الفرد من تضخم ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية» (ميلاد مجتمع، 43)، فيختفي الشخص- بتعبير بن نبي- وهو الانسان الذي يعي موقع ودوره الاجتماعي، ويحل بدله الفرد، الذي ينشغل بالأنا الفردي وتتضخم شخصيته فوق حدود ما يجعلها فاعلة في المجتمع، على حساب «الجسد الاجتماعي»، وهنا يحذرنا بن نبي من أنه «حينما تصاب الذوات بالتضخم»، يصبح «العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا»، مما يدل على أن «العلاقات الاجتماعية تكون فاسدة»، وحينها لا يتجه الناس إلى إنجاز عمل مشترك وإيجاد حلول، ولكن إلى إثبات ذواتهم في مقابل الآخرين.
وهذا يحتاج انتباه الخبراء إلى كيفية بدايات مرض شبكة العلاقات الاجتماعية، كما يحتاج إلى تربية تستعيد للإنسان توازنه الاجتماعي.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر