لا حيلــــة مــع الله…
يكتبه د. محمّد قماري/
كتبت قبل سنوات مقالاً تحت عنوان (السياسة والعياذ بالله)، وذكرت فيه تعليق الأديب الكبير توفيق الحكيم عن مسيرة سيّد قطب، رحم الله الاثنين، وكان الحكيم قد نشر في إحدى مقالاته التي كان يكتبها من على فراش المرض أنه أعجب بما كتب سيّد قطب حول (التصوير الفني في القرآن) ولو استمر على ذلك النهج لكان له شأن أدبي عظيم، لكن اختطفته السيّاسة والعياذ بالله!
والحقيقة أن توفيق الحكيم كان له جولات سابقة مع سيّد قطب، حول قضيّة (موالاة) بعض الكتاب ممن درس في فرنسا لفرنسا، وذكر الحكيم تحديدًا ووخزه بقلمه الحاد، إذ كان هؤلاء الكتّاب يشيدون بفرنسا الحرية والإخاء والمساواة، واستحضر سيّد في تلك السنوات معاناة المسلمين في الجزائر والمغرب تحت سياط فرنسا الحريّة والديمقراطيّة، وربما لم ينس الحكيم ذلك السجال وهو في خريف العمر، فكلمات قطب كانت أشد من شواظ النار…
ولعل توفيق الحكيم أدرك وهو في (الوقت الضائع)، كما كان يوقع مقالاته الأخيرة على صفحات الأهرام، أن مأساة سيّد قطب هي سياسية، بمعنى أنه دخل في سجالٍ حول ما يدور من أحداث محليّة ودوليّة، وما قضية كتاباته الإسلاميّة إلا أحد الأسباب الثانوية، فالرجل كان يركّز حديثه عن معاناة الشعوب الإسلاميّة وصلتها بالمخططات الخارجيّة…
وحين كتبت ذلك المقال، ذكرت قول الإمام محمد عبده: (لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة فإنها ما دخلت شيئًا إلا أفسدته)، ومما أذكره أن أحدهم علق على ذلك الاستشهاد بأن الشيخ عبده ضال، فلا يجب أن تلعن السياسة وعليها تقوم شؤون الأمة، فإذا صلحت صلح شأنها وإذا فسدت فسد كل شيء فيها، والناس على دين ملوكهم، والله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن…
لقد خفي على صاحبنا أن الإمام عبده لا يلعن السياسة، وهي الإمامة الكبرى، بل يلعن تلك التفاصيل والمهاترات والدسائس الدنيئة، التي تجعل من بعض محدودي الكفاءات يصلون إلى القيام على الشأن العام، وهم أعجز عن القيام بخاصة أنفسهم، فيضيعون ويضيّعون الأمة كلها بعجزهم، ولقد صدق حكيم المعرة في قوله:
يسوسونَ الأُمورَ بِغَيرِ عَقلٍ فَيَنفُذُ أَمرُهُم وَيُقالُ ساسَه
فَأُفَّ مِنَ الحَياةِ وَأُفَّ مِنّي وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَه
تذكرت ذلك المقال، وتذكرت ضلالات السياسة، وأنا أقرأ نعي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فالرجل يوم جاء أبهر الناس بقدرته على (التكتيك)، وسمعوا بعد سنوات صوتًا مفهومًا، وشاهدوا رئيسًا نشيطًا، ملأ كل فراغ بجولاته وخطاباته، وظنوا أن القدر قد أبدل حزن البلاد فرحًا، وخوفها أمنا، وعسرها رخاء، فهتفوا باسمه وغضوا الطرف عما يتناهى لأسماعهم من خطايا…
وكانت أول خطيئة له أن اختزل البلاد في شخصه، و(أن الرعد صوته والبرق سيفه)، ففتك بما بقي من أمل في دستور البلاد، مرة بعد مرة، كان فاتحتها أنه رئيس مدى الحياة، وتتالت العهدات الرئاسية، حتى في زمن مرضه وعجزه، فيكفي الناس أن يروا منه (الكادر)…
ويوم رجع الرئيس من رحلة العلاج الأولى قال: لا حيلة مع الله!
وكنت ممن ظنَّ أن المرض واعظ، وأن الرجل قد تعلم وعلم بأن البشر مهما بلغوا فهم محدودون، وأن قدراتهم لها نهاية، وألا حيلة مع الله الذي يأبى أن ينازعه أيا من مخلوقاته قدرته الأبدية وسلطانه السرمدي، لكن الذي حدث أن الرجل أمعن في (التكتيك)، وأظهر أنه كان يقصد ما يقول عندما شبه نفسه بموليير الذي يموت على خشبة المسرح!
هذا عن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أما عن الإنسان فلكل بداية نهاية، وكل من عليها فان، وفي موته عبرة، وكفى بالموت واعظا، وإنَّا لنرجو من الله الكريم أن ينظر له بكرمه وأن يعظّم له أحسن ما قدم، وسيذكر التاريخ أن سانحة بدت للجزائر لتأخذ طريقها نحو التقدم والتنميّة أهدرها رجل لا ينقصه الذكاء ولا تنقصه التجربة، وأنه أفرط في فن (التكتيك) حتى نسي أحد أبجديات السياسة وهي الاستراتيجيّة، فالأمم لا يمكنها التقدم بتكتيك حكامها في سبيل بناء مجدهم الشخصي، لكن تعلو وتنمو وتتقدم بفعل استراتيجيات ينخرط فيها كل أبناء الأمة.
وبرحيل بوتفليقة تكون صفحة جديدة من صفحات ما بقي من عمر ذلك الجيل قد سقطت، جيل تسنى له أن يخدم بلده في مقتبل العمر، وأخشى أن يأتي اليوم الذي تقول في الأجيال الصاعدة، أنهم جيل أكل الحلوى وورثنا نحن سوس الأسنان!