في ظلال السنة النبوية الشريفة: أصناف الناس تجاه الهداية التي بُعث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أ.د/ مسعود فلوسي/
عَنْ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه الله عليه وسلم: (إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً؛ فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) [متفقٌ عَلَيهِ].
مقدمة
رسول الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم – أرسله الله عز وجل بدين ارتضاه سبحانه وتعالى لعباده دون سواه من الملل والنحل والديانات: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
هذا الدين يتضمن أحكاما وتعاليم، الإنسان الذي يتمسك بها ويحرص على تطبيقها عمليا هو الذي سيحيى الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]، ومن أعرض عنها وتنكب طريقها كان من الأشقياء في الدنيا ومن الهالكين في الآخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه: 124].
فالدين هو الحياة، والإنسان الذي يتمسك بدينه ويعمل بأحكامه ويحرص عليها، يعيش حياة حقيقية، أما الإنسان البعيد عن الدين فهو ليس حيا في الحقيقة لأنه يعيش في ظلمات الجهل والضلال، فهو ميت ويحسب نفسه حيا، قال سبحانه وتعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
وعندما عرض عليه الصلاة والسلام هذا الدين على الناس تباينت مواقفهم منه، وكانوا ثلاثة أصناف.
وهذه الأصناف الثلاثة موجودة في كل زمان ومكان، فالناس عندما يُلقى عليهم الدين من قبل العلماء والدعاة، أو عندما يأتيهم من يعرفهم بالدين ويدعوهم إلى العمل بأحكامه، ويقول لهم: هذا كلام الله رب العالمين وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أحكام الشرع وتعاليمه وإرشاداته وتوجيهاته، تجدهم – في مواقفهم من هذا الذي يُلقى عليهم ويُدْعَوْنَ إلى العمل به – ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يقبل الدين ويعمل به
هناك إنسان، عندما يسمع العلم الشرعي، وعندما يُبلغ إليه حكم الله عز وجل وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم – يفتح قلبه وعقله ويستقبل أحكام الشرع ويتعلمها، ثم يوطن نفسه ويجاهدها ويَحْمِلها على العمل بتلك الأحكام، وبعد ذلك يجتهد في أن يُعلمها لغيره.
هذا الصنف من الناس يضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا بالأرض الخصبة التي عندما ينزل عليها الغيث تتفتح وتستقبل الماء وتمتصه، ثم تعيد إخراجه نباتا ينتفع منه الناس والدواب، بل كل الخلائق تنتفع منه: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5].
هذا الصنف من الناس –ممن يمكن وصفهم بالربانيين أو المؤمنين المخلصين الصادقين – هم أهلٌ لهداية الله عز وجل وتوفيقه في الدنيا وتقبله وتنعيمه في الآخرة، وبذلك وعدهم ربهم سبحانه وتعالى في قوله الكريم: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، وقوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13-14].
الصنف الثاني: من ينقل ما يعلمه من الشرع لغيره دون أن ينتفع به
وهناك صنف ثان من الناس، حين يُلقى عليه العلم الشرعي أو يسمعه من الغير، يستقبله ويفتح له قلبه ويأخذ هذا العلم، ولكنه قد لا ينتفع به في حياته الشخصية كما ينبغي، لظروف أو لأسباب في نفسه أو في محيطه تمنعه من الانتفاع به، ولكنك تجده حيثما سنحت له فرصة يبلغ لغيره ما سمعه من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا الصنف موجود في الواقع في كل زمان ومكان، تجد إنسانا بسيطا من عامة الناس، قد لا يكون مجتهدا في تدينه في حياته الشخصية، ولكنه يحفظ الكثير من أحكام الشرع دون أن يعرف كيف يطبقها أو يعمل بها، فتجده حيثما تسنح له مناسبة يبلغ ما يعرف من أحكام لمن يريد أن يعرفها، فعندما يبلغها لشخص آخر له ذكاء أو وعي يعرف كيف يطبقها، وفي مثل هذا الصنف من الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) [رواه البخاري].
هذا النوع من الناس ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلا بالأرض التي تخزن الماء ولا تنبت، عندما ينزل عليها الماء لا تضيعه بل تحتفظ به في جوفها حتى يأتي من يستخرجه منها، وقد يخرج هذا الماء في شكل عيْن فينتفع منه الناس وتنتفع منه الحيوانات وغيرها من المخلوقات.. هناك نوع من الناس هكذا، يخزن العلم والمعرفة الشرعية، ولكنه ربما لا يحسن الانتفاع به، حتى يأتي من يأخذه من عنده وينتفع به أفضل منه.
حتى هذا النوع من الناس فيه خير إن شاء الله، ولكن مرتبته دون مرتبة الصنف الأول بكثير.
الصنف الثالث: من يُعرض عن الشرع ويرفضه وقد يحاربه
لكن هناك صنف ثالث من الناس، يُلقى إليه العلم ويسمع كلام الله -عز وجل – وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم – ولكنه لا يشعر بأنه معنيٌّ بهذا الكلام، بل يعتبر نفسه غير مخاطب به كغيره من الناس، هو يسمع ظاهرا ولكنه في الحقيقة لا يسمع شيئا، لا يفتح قلبه ليستقبل هذا العلم وليعمل به، فليس عنده استعداد ليسمع ولا ليعمل ولا ليبلغ غيره.
هذا النوع من الناس هم الذين أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ويْلٌ لأقماعِ القولِ) [أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والطبراني].
تجد إنسانا يسمع القول ولكنه كالقمع يدخله الماء من جهة ليخرج من الجهة الأخرى دون أن ينتفع منه بشيء، يسمع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنه يعرض عنه ولا يلقي له بالا، فلا يستقبل هذا العلم ولا يعمل به ولا يعلمه لغيره.
هذا النوع من البشر يضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا بالأرض الملساء التي إذا نزل عليها الماء زلق وانحدر بعيدا فلم تمسك منه شيئا، فهي لا يثبت الماء فوقها ولا تمتصه لتحتفظ به في جوفها، فمهما ينزل عليها من الماء يضيع ولا تنتفع به في ذاتها ولا تحفظه لينتفع به غيرها.
هذا الصنف موجود حتى بين المسلمين أنفسهم، فنجد -مثلا – كثيرا من الناس يأتي أحدهم إلى المسجد، ويسمع درسا من دروس العلم، فكأن الإمام أو الشيخ يتكلم عن أناس آخرين أو يخاطب أناسا في أماكن أخرى، أما هو فيعتبر نفسه غير مقصود وغير معني بالكلام الذي يُلقى. أذنه تسمع ما يوجه إليه من خطاب، ولكن قلبه لا يستوعب منه شيئا، فليس هناك اتصال بين الأذن وبين القلب. كما أن هناك قطاعا كبيرا من المسلمين في هذا العصر يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بألسنتهم إلا أنهم يرفضون عددا كبيرا من أحكام الشرع وينكرون صلاحيتها لحكم حياة الناس في هذا الزمان، بدعوى تقادمها وتغير الظروف التي نزلت فيها. هؤلاء هم أقماع القول، وقد حذرنا سبحانه وتعالى أن نكون منهم أو نحشر في زمرتهم في قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20-21].
تلخيص
هذه إذن هي أصناف الناس تجاه دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما بينها بنفسه عليه الصلاة والسلام، فكل مسلم عليه أن يحاسب نفسه ويحدد موقعه؛ فإن رأى نفسه في الصنف الأول فليحمد الله عز وجل وليسأله أن يعينه على المداومة على هذا الخير وهذه النعمة. وإن رأى نفسه في الصنف الثاني فليحمد الله عز وجل وليسأله أن يعينه على الترقي إلى المرتبة الأولى. أما إن وجد نفسه في الصنف الثالث فليسارع بعلاج نفسه، حتى لا يبقى في المرتبة الأدنى، لأنها مرتبة أهل الضلال والعياذ بالله، وليس هناك مسلم أو مؤمن يخاف الله عز وجل ويعبده ويحب الله ورسول -صلى الله عليه وسلم – يرضى لنفسه أن يكون من أهل الضلال أو يكون من أقماع القول الذين أنذرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم – بالويل. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.