من يستعيد ديوان محمد العيد آل خليفة؟/ مبروك نويس
“وحي الثورة والاستقلال” هو عنوان ديوان مخطوط للشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة – رحمه الله، ولكن هذا الديوان – مفقود مع الأسف- وأكاد أقول مصادر الديوان تشتمل على أكثر من ألف بيت، تتناول معظم أحداث ثورة التحرير، وبعض قضايا السنوات الأولى لاستعادة الاستقلال، بالإضافة إلى بعض القضايا العربية التي عرفتها تلك المرحلة.
نشر محمد العيد آل خليفة أجزاء لوزارة الأوقاف على سبعة أعداد بدءا بالعدد، وانتهاء بالعدد المزدوج [11-12] “العدد الممتاز”، وهذا الجزء المنشور بمجلة “المعرفة هو الذي جمعه الدكتور محمد بن سمينة -رحمه الله- وقدمه إلى الطبع بعنوان: “العيديات المجهولة” على غرار الشوقيات المجهولة، ولكن صاحب دار الغرب الإسلامي آثر نشره بعنوان: “تكملة ديوان محمد العيد آل خليفة” غير آبه برغبة المؤلف.
وقد علمت من الدكتور محمد إسلام نجل الراحل محمد بن سمينة بأنه ينوي إعادة طبعه بعنوان “العيديات المجهولة” وفاء لذكرى والده.
وتقتضي الأمانة أن أسجل بأن الدكتور محمد بن سمينة قد ألغى من شعر محمد العيد في مرحلة استعادة الاستقلال كل ما فيه إشارة الفترة التي عرفتها الجزائر قبل 19 يونيو 1965م، وهو بهذا يطبق نفس المنهجية التي اعتمدتها اللجنة التي أشرفت على إعداد الطبعة الأولى (3) من الديوان رغم معرفة أعضاء هذه اللجنة بأن محمد العيد في شعره يتوجه باستمرار إلى المبادئ بغض النظر عن الأشخاص الذين يأتون ويرحلون، وهذا ما جعل العلامة محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله- يصف شعر محمد العيد في مناسبات عديدة عبر مراحل حياته، ومنها قوله:
الحــــكم لله ثم الشعب مـرجعـه مهمــــــا تغيـر من حال إلى حال
نحن الحنائف ماضينا وحاضرنا صنوان، سيان في حل وترحال
نهوى الجميل ونهوى من يمثله للناس في حلل أو بين أسمال
وما هدفنا إلى شخص نقدسه لكن إلى حسن أخلاق وأفعال
نواكب الحق مهما سار موكبه سلما وحربا ونأبى كل إذلال(5)
والعجب العجاب أن هذه اللجنة التي ألغت ما شاءت من شعر محمد العيد هي نفسها التي امتنعت عن تلبية رغبته الملحة في إلغاء بعض ما كتبه مبررة امتناعها بحجة الأمانة التاريخية.
واكتفي هنا بإيراد مثالين لرغبة محمد العيد التي رفضتها اللجنة:
حذف الألغاز التي كان يكتبها على عجل لتلاميذه في القسم مما جعلها دون مستوى بقية شعره.
-إلغاء هذا البيت الذي أملته ظروف خاصة مر بها:
ومن مواطن ضعف المرء طيبته فلا تكن طيبا إلا بمقدار
ومحتوى هذا البيت –كما يرى القارئ- غريب عن محتوى الديوان وعن طبيعة محمد العيد، ولذلك ألح على حذفه: وقال بشأنه “في حالة نشر هذا البيت لن يبقى هناك داع لنشر الديوان”.
ورغم هذا أصرّت اللجنة على نشره مما تسبب في صدمة لمحمد العيد حينما فوجئ به الديوان المطوع.
هذا باختصار عن الأجزاء التي نشرت من ديوان وحي الثورة والاستقلال، أما عن المخطوط الكامل فقد كان محمد العيد يأمل في فرصة مواتية لطبعه في ديوان مستقل، وحين اطلع على محتوى الديوان الأديب المصري عز الدين علي السيد عضو البعثة الأزهرية بالجزائر، والمدرس يومئذ بالمعهد الإسلامي بباتنة، عرض على محمد العيد أن يسلمه الديوان المخطوط ليكتب له مقدمة ويطبعه بمصر، ويأتيه بالكمية المطبوعة فأحس محمد العيد بأن أمنيته بطبع هذا الديوان قد حانت، وقام في الحال بتسلميه النسخة المكتوبة بخط يده دون أن يحتفظ بأخرى مصورة عنها، رغم أنها كانت النسخة الوحيدة لديه.
وكانت النتيجة هي إسدال الستار على هذا الديوان منذ تلك اللحظة، لأن الأستاذ عز الدين علي السيد لم يكلف نفسه عناء الاتصال بمحمد العيد بعد ذلك، وجاء هذا التصرف من الأديب المصري متزامنا مع نهاية تعاقده مع الجزائر.
وقد بذلت أقصى ما أمكنني من جهد منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي من أجل استرجاع هذا الديوان وفاء للجزائر ولمحمد العيد الذي رحل عن دنيانا قبل أن تقر عيناه باستعادة هذه الدرة الثمينة ورؤيتها مطبوعة كما كان يأمل.
ويجب أن أسجل للحقيقة والتاريخ أن محمد العيد منعني صراحة من إقحام اسمه لدى اتصالي بالمعنيين الذين عرضت عليه قائمة بأسمائهم للمساعدة في استعادة هذا المخطوط، وكان من بينهم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي نجل صديقه العلامة محمد البشير الإبراهيمي خلال مراحل توليه الحقائب الوزارية المختلفة، وكانت مجرد إشارة منه إلى سفيرنا بالقاهرة تكفي لتجنيد إمكانيات سفارتنا لهذا الغرض، ولكن محمد العيد قال لي: يكفيني من الدكتور أحمد طالب ما عمله من أجل طبع ديواني الأول حين كان على رأس وزارة التربية الوطنية، أما الآن فهو يتحمل أعباء وزارة تتعامل مع القارات الخمس وليس من المعقول أن أضيف غليه متاعب أخرى.
ولما قلت له يا سيدي أنت بهذا أغلقت في وجهي كل الأبواب التي كنت آمل أن أطرقها، كانت إجابته: “بإمكانك أن تتصل بمن تشاء دون أن تذكر بأنك مرسل من طرفي”.
وهذا ما فعلته في اتصالي بالعشرات، وبعض هؤلاء مستقر بالقاهرة وبينهم الباحث الذي يفترض به أنه يقدر أهمية الوثيقة، وفيهم من يتردد على مصر بين حين وآخر، وبينهم سفير سابق طلبت إلى أحد معارفه الأثيرين الاتصال به حين كان على رأس سفارتنا بالقاهرة، وهناك كثيرون غيرهم منهم أحياء أمدهم الله بدوام الصحة، وآخرون انتقلوا إلى جوار ربهم – رحمهم الله.
يؤسفني أن أقول بكل مرارة: “أنني لم أظفر من كل هؤلاء بغير التسويف والوعود التي كانت تتناسل باستمرار وتفرخ وعود أخرى”.
ورغم كل العراقيل والمعوقات، فإن جهدي لاستعادة هذا الديوان سيتواصل، ولهذا رأيت أن أنشر هذا المقال لأشرك معي غيري من محبي محمد العيد آل خليفة، الأوفياء للجزائر، الغيورين على تراثها، أفرادا كانوا أو مؤسسات، وأنا على يقين بأنهم كثيرون، سواء عرفناهم أم لم نعرفهم؟ ومن بين من أعني هنا من دأبوا على تنظيم مهرجان سنوي ببسكرة باسم محمد العيد آل خليفة تنتهي آثاره مع انتهاء كلمة آخر الخطباء المتبارين على المنصة العكاظية.
فهل ينتبه هؤلاء ويقتنعون بأن الأفيد للجزائر ولمحمد العيد أن يعملوا على استرجاع هذا الديوان وإعادة بعث بقية انتاجاته المبعثرة في الصحافة الوطنية منذ سنة 1920م، وبعض هذا الإنتاج سبق طبعه مثل: مسرحية بلال بن رباح (7).
ومن ين من أعني-هنا أيضا- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأعضاء مجلسها الوطني، وهم أعلم من غيرهم بأن محمد العيد ركيزة أساسية من ركائز جمعية العلماء، كما يشهد إنتاجه، بالإضافة إلى أنه شارك في تأسيسها، وكان عضوا بمجلسها الوطني، بل إن الإمام عبد الحميد بن باديس -طيب الله ثراه- حين طلب إليه آل دمرجي سنة 1927م، أن يزكي لهم شخصية مؤهلة لإدارة “مدرسة الشبيبة الإسلامية” بالعاصمة، اختار لهم محمد العيد آل خليفة، وكان هذا قبل أن تؤسس جمعية العلماء بأربع سنوات (8).
هذه الأمثلة عن العلاقة العضوية لمحمد العيد بجمعية العلماء بديهية يعرفها العام والخاص ولا تحتاج إلى التذكير بها.
ورغم هذا زار وفد عن جمعية العلماء مدنية بسكرة “عرين محمد العيد” مع بداية هذا العام (9)، واستقبل أعضاؤه استقبال الفاتحين ولكنهم لم يأتوا على ذكر محمد العيد إلى جانب من ذكروا من أعلام المنطقة الذين أشادوا بهم، رغم أنهم جميعا من أبناء الضواحي، وأن محمد العيد هو الوحيد ابن مدنية بسكرة، كما أن بيته على مرمى حجر من القاعة التي جرى بها مهرجان الجمعية.
وأرجو ألا يفهم أني أعترض على الإشادة بهؤلاء الأعلام، فهم يستحقون أن يجلدوا وتقام لهم التماثيل اعترافا بما قدموه للإسلام والجزائر واللغة العربية، ولكن ما صدمني حقا هو إغفال ذكر محمد العيد مع هؤلاء الأعلام.
ولو جاء هذا التصرف من جهة أخرى لما كان في ألمر ما يدعو إلى الغرابة، أما أن يأتي من وفد جمعية العلماء وفيه رئيسها ونائبه فهي الخطيئة التي لا يجدي معها أي تبرير.
وبالمناسبة يحضرني تعبير أثير لرئيس الجمعية يردده باستمرار كقاعدة تطبقها الجمعية: “كل الشعب الجزائري ينتمي إلى جمعية العلماء بالقوة وبالفعل”، وهذه القاعدة فيما أرى تحمل جمعية العلماء إضافية وتجعلها معنية بالقوة وبالفعل بكل ما يمت بصلة إلى الجزائر في مختلف المجالات، وعلى أعضاء المجلس الوطني للجمعية قبل غيرهم أن يجعلوا ضمن أجندتهم العمل بجد لاستعادة هذا الديوان، ولحسن الحظ فإن صديقنا الدكتور عبد الرزاق قسوم كثير السفر والتنقل، ولا يكاد يعود من رحلة حتى يشرع في إعداد حقائبه استعدادا لرحلة أخرى. وأنا على يقين بأنه بإمكانه عمل الكثير في هذا المجال حين يريد.
وقبل أن أأأانهي هذا المقال: “أشير إلى أن الأستاذ عز الدين علي السيد قد حصل على درجة الدكتوراه عقب نهاية تعاقده مع الجزائر، واشتغل بكل من الكويت ولبنان، وأخيرا المملكة العربية السعودية، حيث وافاه الأجل هناك في حادث سير -رحمه الله، ولكن له أسرة ومعارف كثيرون بالقاهرة في محيط الأزهر، وفي خارجه أذكر منهم الدكتور سامي الشعراوي نجل الداعية المعروف محمد متولي الشعراوي -رحمه الله، الذي كان مسؤول البعثة الأزهرية بالجزائر خلال العشرية الأولى لاستعادة الاستقلال، كما أن ابنه الدكتور سامي عمل أستاذا بالمعهد الإسلامي بحسين داي خلال نفس الفترة التي عمل فيها الأستاذ عز الدين السيد بالمعهد الإسلامي بباتنة.
والدكتور سامي الشعراوي وبقية إخوته يترددون على المسجد والمؤسسة الخيرية التي أنشأها والدهم بالقاهرة بالقرب من مقام السيدة نفيسة، وأرى أنه من خلالهم يمكن الاهتداء إلى عائلة الأستاذ عز الدين السيد الطي ينام عنده مخطوط ديوان محمد العيد “وحي الثورة والاستقلال” منذ أكثر من نصف قرن، رغم أنه هو الذي ألح على محمد العيد أن يسلمه هذا المخطوط ليكتب له مقدمة ويطبعه بمصر، ويأتيه بالكمية المطبوعة.
وأتذكر مقولة للعلامة محمد البشير الإبراهيمي بشأن جمع شعر محمد العيد وطبعه، قالها في صيف سنة 1938م، ومما جاء فيها قوله: “…وإذا كان في النهضة العلمية الأدبية بالجزائر نواحي نقص، فمنها أن يبقى شعر محمد العيد غير مجموع ولا مطبوع” (10).
واليوم وبالرغم من مضي سبعة وسبعين عاما على هذه المقولة، وثلاثة وخمسين عاما على استعادة الاستقلال فإن دار لقمان ما تزال على حالها، بل إن ديوان “وحي الثورة والاستقلال” افتقد في منتصف العشرية الأولى لاستعادة الاستقلال، كما أن ديوان محمد العيد الذي صدر أول مرة سنة 1967م قد عبث بمحتواه العابثون بتراث الجزائر وأصالتها حين أعيد طبعه أسوأ طباعة في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية، ولم يتوقف الأمر عند الطباعة السيئة، بل امتد إلى محتوى الديوان، فحذفوا منه الأصيل المقدس وأحلوا محله دخيلا هزيلا، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير! (11).
والسؤال الذي يطرح نفسه في نهاية هذا المقال: ألا يوجد بين أبناء الجزائر اليوم من يستعيد ديوان محمد العيد المخطوط؟ ويعمل على إعادة نشر إنتاجه الذي طواه النسيان؟ ويعيد المحذوف من شعره إلى مصدر الأول وفاء لمحمد العيد آل خليفة؟ وذلك تأدية للأمانة، وخدمة لتاريخ الجزائر، وصونا لتراثها؟!
الهوامـــش:
1- نشرت هذه الأجزاء من الديوان على سبعة أعداد من مجلة “المعرفة” الشهرية لوزارة الأوقاف بدءا بالعدد 6 وانتهاء بالعدد المزدوج 11-12، العدد الممتاز بتاريخ محرم –صفر- 1384هـ ، مايو –يونيو 1964م.
2- دار الغرب الإسلامي بيروت 1997م
3- مطبعة البعث – قسنطينة 1967م
4- مقال لمحمد الهادي الحسني في جريدة “الشروق اليومي”17 سبتمبر 2009م
5- ديوان محمد العيد محمد علي خليفة الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1979م- ص 505
6- الهامش السابق- ص361
7- صدرت عن المطبعة العربية بالجزائر 1938م.
8- رسالة آل دمرجي إلى محمد العيد آل خليفة
9- البصائر 5-12 ربيع الثاني1436هـ، الموافق لـ: 26 يناير- أول فيفري2015م.
10- مجلة الشهاب- العدد الخاص باحتفال ختم التفسير للإمام عبد الحميد بن باديس، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1357هـ، يونيو- يوليو 1938م، ص268.
11-مقال لمحمد الهادي الحسني- الشروق 4ديسمبر 2008م.