عوائق النهضة: الغرام بالأشكال أو «الحرفية في الثقافة»
د. بدران بن الحسن */
من العوائق التي تؤخر انطلاقتنا لتحقيق نهضة حضارية ما سماه مالك بن نبي «الحَرْفِيَّةُ في الثقافة» في كتابه (مشكلة الثقافة، ص75). وهو الكتاب الذي سعى فيه بن نبي إلى وضع نظرية في التغيير الثقافي لبناء وسط ثقافي يخرج المسلم من ثقافة التخلف، ويدخل به وسطا جديدا، هو وسط ثقافة التحضر والنهضة. ويمكن أن نعبر عن الفكرة بقولنا إن من عوائق نهضتنا، ذلك الجهل المركب الذي يتميز به المثقف وحامل العلم عموما عندنا، وصار هذا المرض مزمناً لدى النخبة الثقافية، ومعدياً، تتوارثه الأجيال فلا نكاد نخلص منه.
ذلك أن الجهل المغلف بألقاب اكاديمية وثقافية، يجعل صاحبه يقدم على أنه حامل شهادة عليا او حافظا لكتاب الله أو متعلما وخبيرا، دون أن يدرك بأنه جاهل يحمل شهادة. كما يعتقد بأن الشهادة التي حصل عليها هي مقياس مكانته العلمية الوحيد، بحكم غرام ثقافة التخلف بالأشكال، واكتفائها بتقييم المثقف والعالم بناء على شهادته التي يحملها ويزين بها مكتبه أو ملفاته التي بين يديه، مما يضع بينه وبين الحقيقة والواقع حاجزا نفسيا يمنعه من التعلم، كما يمنعه من تصحيح أخطائه إذا وقع فيها، أو تحديث أفكاره ومعلوماته وطرق تفكيره كما يقتضيه تطور المعرفة، وتنوع التجربة، وتبدل الأزمنة والامكنة والأحوال.
وهذا الجهل المركب الذي يسميه مالك بن نبي «الحَرْفية في الثقافة»، ثمرة تراكمات تاريخية في ثقافتنا وثقافة مجتمعاتنا، لأننا لم ننظر إلى ثقافتنا على أنها تتعرض للأمراض ولدخول عناصر «قاتلة» أو تجمع لنفايات «ميتة»، وعليه فإننا لا نفكر في «تصفية عاداتنا وحياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط» (مشكلة الثقافة، ص75)، فصار رصيدنا الثقافي الحديث ينتج لنا موظفين بشهادات بين شعوب أمية، وليس مثقفين يحملون رسالة المثقف بما فيها من رؤية وقيم ومناهج ومعارف ومهارات وصنائع، تفتح للمجتمعات طريق التحضر.
وكعادة الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في تشريح امراضنا، والنظر في جذورها العميقة، لاستئصال المرض والقضاء على أسبابه وتمهيد الأرضية لتعافي جسد الامة منه، فإنه لم يسارع إلى اتهام الآخر غير المسلم، أو القول بنظرية المؤامرة، ولكنه رأى أن جذور المشكلة هذه، ترجع إلى «رجل ما بعد الموحدين» (مشكلة الثقافة، ص75)، وهو المفهوم التحليلي الذي صاغه بن نبي للدلالة على شخصية الإنسان المسلم منذ عهد ما بعد دولة الموحدين في المغرب العربي إلى اليوم، وهي شخصية تتسم بالرؤية الحدية للأمور، والتبطل عن العمل التاريخي، والركون إلى الدعة والماضي، والمطالبة بالحقوق وترك أداء الواجبات. والذي يسميه أيضاً «رجل القلة» الذي اكتفى بالهامش والقليل، والذي «بتر فكرة النهضة فلم ير في مشكلتها سوى حاجاته ومطامعه … فهو لم ير في الثقافة إلا المظهر التافه، لأنها عنده طريقة ليصبح شخصية بارزة، وإن زاد فعلم يجلب رزقاً» (مشكلة الثقافة، ص75) وليس له دور رسالي، ولا ينشغل بان يكون رائد قومه في تفكيك خيوط الازمة، ووضع لبناء في بناء النهضة المنشودة؛ فهو من جهة يقدم نفسه فوق بقية الناس باعتباره متعلما صاحب شهادة وعلمن ولكن من جهة أخرى جعل ذلك كأنه يوجب له حقا على العامة دون أن يؤدي دوره في خدمته وخدمة المجتمع وتصفية ثقافتنا من معيقات النهضة، والمساهمة بفعالية في تحقيق مشروع التحضر، في أي مستوى يكون فيه هذا المثقف.
وهذا الغراب بالأشكال كما يسميه الحكيم الترمذي، يؤدي إلى الذهول عن المقاصد، وهذه «والحَرْفية في الثقافة» تؤدي إلى التعالم بدل العلم، وهو مرض خطير من أمراض الثقافة، لعله أخطر من الجهل والأمية ذاتهما. لأنه جهل مركب، ينطوي على موقف نفسي رافض للتعلم، وللتواضع، وللانخراط في التغييير الاجتماعي وخدمة المجتمع والبحث له عن حلول تخرجه من تخلفه الحضاري الذي طال.
يقول بن نبي: «اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو (التعالم)، وإن شئت فقل: الحرفية في التعلم، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته. وهكذا أتيح لجيلنا أن يشهد خلال النصف الأخير من هذا القرن، ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الأطمار البالية، وحامل اللافتات العلمية» (مشكلة الثقافة، ص75)؛ وهو في ذلك ينتقد ظاهرة الدروشة والمرابطية باسم العلم الشرعي، وظاهرة حملة الشهادات المتعالين على المجتمع الفاقدين لمعنى العلم وفعاليته وقيمته في الواقع.
ولقد شهدنا منذ بدايات الربيع العربين وما تعرضت له شعوبنا من استبداد وانقلابات، وما تواجهه من أمات متعددة، كيف ان أغلب المثقفين وحملة الشهادات لا يختلفون في مواقفهم عن عامة الناس، بل ربما تجد في العامة صدقا وإخلاصا أكثر مما تجده في المثقفين، الذين صار أغلبهم «كإبل المائة لا تجد فيها راحلة»، كما جاء في الحديث. بل رأينا كيف ينقلب المثقف على مبادئه من اجل منصب، أو موقع سياسي، أو مكانة في مؤسسة، أو للحصول على امتياز ما، دون مراعاة لما يتطلبه العلم والثقافة من وعي وتحمل المسؤولية الأخلاقية والفكرية أمام مجتمعه وأمته. بل تجد كثيرا من المثقفين، بدل أن يفتح لأمته طريقا للخروج من محنتها، ينقلب إلى فيروس مضاد، يطعن في قيمها، وفي بنائها الاجتماعي، وفي ميراثها الديني والاجتماعي والثقافي، دون استعمال لأدنى متطلبات النقد العلمي البناء، وإنما فقط ليحقق المثقف سرعة في صعود رجة سلم الشهر وأن ترضى عنه دوائر القرار أو مؤسسات صناعة النجومية، أو النظام الدولي، فتلحقه ضمن قائمة الشخصيات المؤثرة، أو التي تحصل على جوائز دولية، دون مراعاة لموقفه هذا هل يخدم أمته أم يكون وبالا عليها، وهل موقفه هذا ينسجم مع وضع أمته ومرحلتها الحضارية والوجهة التي تسعى إليها أم أنه معول هدم ومستجلب نفايات أيديولوجية، وممهد للغزاة.
وإن هذا الغرام بالأشكال، أو الحرفية في الثقافة كما سماها بن نبي، تجعل العلم مسخاً وعملة زائفة غير قابلة للصرف. وهو مرض خطير ومعيق لنشأة ثقافة الفعالية والسننية والفكر الذي له كثافة الواقع وحقيقته، ولهذا حدث لنا غرام بالأشكال والكلمات، دون انشغال بحقائق الأمور، وتفقد الكلمة قيمتها وفعاليتها، فيفقد الانسان حاسة تقدير الأمور على وجهها الصحيح، ولا يعرف للفاعلية معنى، بل ينشغل بالأشكال الخاوية؛ وكأنها وثنية جديدة تتغنى بالشكل وتنسى المضمون.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر