أقلام القراء

بعيدا عن الجدال/ عبد العزيز كحيل

لا، لن أنساق إلى حلبة أي جدل عقيم، ولن أخوض في المسائل المنتهية والقضايا الهامشية، هذه ليست هوايتي، وأوقاتي أثمن من أن أضيّعها فيما لا ينبني عليه عمل.

لستُ مستعدّا لأن أكون فريسة لمن يتصيّدون الشبهات من هنا وهناك، ويروّجونها ويريدون منا – أنا وأمثالي – أن نفرغ جهدنا، ونسخر أوقاتنا في الجدال حولها، كأنها ابتكارات آخر صيحة…! في حين هي آراء شاذة للمستشرقين نشروها منذ مدد طويلة للتشويش “علميا” على القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، لو تتبعتُ هؤلاء المجادلين لقضيتُ عمري في الخروج من شبهة سمجة للدخول في أخرى وثالثة وعاشرة، ومن الغرائب أن مروجي هذه الشبهات من غلاة العلمانيين يدّعون السعي للتقدم، وهم يجروننا إلى الخلف، ويزعمون الاصطفاف مع الإبداع وهم يكرّسون التقليد.

أليس من الأفضل الاشتغال بالعلم النافع والعمل المجدي؟ هل رأيتم عبر تاريخنا الثقافي صاحب شبهة شبع من المِراء ورجع إلى الجادة وسلّم بالحقائق؟

لا أقبل أن يوضع الاسلام في قفص الاتهام لأقوم بالدفاع عنه، ألتمس له الأعذار وأتوسل التخفيف في الحكم عليه، لا…!، فإن الإسلام هو الحق، ومهمتنا التقدم به وخدمة قضايا الأمة وليس المراوحة لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، وإذا كان عمر الشبهات طويلا فإن حقائق الاسلام وحُججه ساطعة قوية دامغة تدحض الزبد، ليس من خلال الجدل العقيم، ولكن بإصلاح العقول والقلوب والسلوك، ونشر الثقافة الدينية الأصيلة البيّنة.

سئمنا شبهاتهم حول المرأة والأقليات غير المسلمة، وانتشار الإسلام بالقوة، وكيفية جمع القرآن، وعلم الحديث، وأحداث الفتنة الكبرى، وصولا إلى ما يسمونه “الإسلام السياسي”، ونحو ذلك مما تفنى الأعمار في الجدال حوله، وقد وجدوا من يسايرهم في هذا المنهج من أمثال الدكتور عدنان إبراهيم الذي يهتم بتحريك قضايا الماضي أكثر من إصلاح الحاضر؛ وأكثرهم لا علم له ولا معرفة عميقة بالمواضيع التي يثيرونها، وإنما يتبعون الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء، وربما لا يحافظ الواحد منهم على صلاته وورده؟ ويرون أن لهم الحق في تناول الموضوعات والمحاور والمسائل؟!

ولو اشتغلوا بتقوى الله تعالى، والاستزادة من العلم الشرعي، وتهذيب النفوس وإتقان أعمالهم، لكان أجدى لهم وأنفع للمجتمع.

على كلّ حال أنا لا أُستدرَج إلى هذه الحلبة، وأفضّل ساحات العلم والعطاء والتفاعل الإيجابي مع كل من ترك المراء وطلب النقاش الجادّ والحوار المثمر.

وفي جانب المتديّنين طامّات أخرى، نقاشات حادة حول كروية الأرض ودورانها، وكيفية دفن الموتى. وهل صوت المرأة عورة ونحو ذلك؟ ممّا يذهب بالوقت والجهد والأجر، وقد ذكر المؤرخون أنه عندما كانت الجيوش الإسلامية تحاصر القسطنطينية حتى أوشكت على السقوط كان كبار رجال الدين المسيحي مجتمعين في إحدى كنائسها يناقشون مسألة خطيرة جدا هي “هل للمرأة روح”!

وأُخبرتُ بعد سقوط بغداد أنه قبيل اندلاع الغزو الأمريكي اجتمع قادة الصوفية بحضور نائب الرئيس العراقي لمناقشة “هل كان للرسول صلى الله عليه وسلم ظل”؟!

بالاشتغال بمثل هذه الترهات يضيع الدين والعلم، وتسقط الدول والحضارات.

مثل جميع طلبة العلم لا أتضايق من النقد، لكن من سوء الأدب ومن التعالم، فلْيردّ  كلُ من أراد علو من أراد فيما أراد بشرط أن يرفع المستوى ويتحلّى بالأدب الجمّ، وماذا يَضيره أن يكْسو ألفاظه أحسن الحُلل؟

هذا دأب أصحاب النفوس الكبيرة، ولْنترك الصغائر للصغار، فقد ذكروا في الأخبار “أنهم جاؤوا رجلا من ذكران الرجال فقالوا: جئناك في حُويجة، فقال: اطلبوا لها رُوَيْجِلا”!

وكم أتمنى أن يترك بعض إخواننا التعالم، فالسؤال من أجل التعلم أفضل من الزعم والادعاء، وخوض الإنسان فيما لا يحسن يُظهر تعثّره، ويكشف سقطاته.

لقد تعلمنا من ديننا الإيجابية وإعطاء كل شيء ما يستحق من الاهتمام – لا نزيد ولا ننقص، وألا ندخل في حوار إلا للتعلّم والتعليم والتبادل النافع، فإذا خلا من ذلك آثرنا الانسحاب حفاظا على أوقاتنا وأخلاقنا، وهذا ما ألزمت به نفسي. كيف لا، وقد رأيتُني في إدبار عن الدنيا، وإقبال على الآخرة، وها أنذا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نَفَسٌ في غير فائدة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com