عاقبـــة الشكــوى
يكتبه د. محمّد قماري/
قبل ساعات من كتابة هذه الأسطر، كنت أقلب في رفوف مكتبتي، أبحث عن كتاب (عالم السدود والقيود) الذي كتبه المرحوم عباس محمود العقاد، والأستاذ العقاد مكث في السجن تسعة أشهر، بتهمة العيب في الذات الملكية، فأيام كان نائبًا، عطلت الحكومة العمل بدستور 1923، وقال تحت قبة البرلمان: «وليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته»، وأتساءل اليوم: ماذا لو كان ذلك الشاب الذي أقدم على صفع الرئيس الفرنسي في مصر أو في أحد أقطار العربان؟
ورب ضارة نافعة، فقد خرج العقاد من السجن ودوّن لنا تجربته، وإذ بالسجن الضيق نقرأه عالمًا فسيحًا، وحلبة تدور فيها المؤامرات، وسوقا للتجارة وعيادة نفسيّة غنيّة بنماذج الأمراض، ومجتمعا هجينا تختلط فيه الأعمار والطبائع والثقافات، وتتصلّب إرادات وتسحق أخرى، كل ذلك في صفحات محدودة تحكي (ميلاد) رجل كان جنين السجن تسعة أشهر…
ووجدتني وأنا أقلب عناوين الكتب بحضرة كتاب صدر منذ عشر سنوات، قرأته في حينه ولم أعد إليه، إنه (يوميّات علي أحمد باكثير)، ذلك الأديب الذي شرّق وغرّب بقلمه، وكان ملء السمع والبصر في مصر الأربعينيات والخمسينيات، كان يضاهي توفيق الحكيم في المسرح، والزيات في الترسل وكتابة المقالة، وفيه من روح شوقي وحافظ في الشعر…
لم يكن باكثير مصريًا، فأصله من حضرموت باليمن لكنه ولد في إندونيسيا سنة 1909، وكان طفلاً يوم أرسل به والده إلى بلده الأصلي لينشأ على اللّسان العربي والثقافة الإسلاميّة، ومنها هاجر إلى الحجاز التي لم يطل به مكثه، فسرعان ما جذبته الحياة الأدبيّة في القاهرة…
دخل باكثير مصر ولم يكن معه من زاد إلا ثقافته الواسعة، وقدرته على اتقان العديد من اللّغات فإلى العربيّة جمع الملايويّة والانجليزية والفرنسيّة، وفي مصر فتحت له صفحات الصحف والمجلات كـ(الرسالة) و(الأهرام) و(البلاغ) و(السياسة)…
ومنذ منتصف عقد الثلاثينيات من عمره، صار علمًا في الشعر والمسرح والرواية في مصر، وحيث تصل صحفها ومجلاتها، لكنه كان يشعر في ضميره أنه ليس (ابن البلد)، فلم ينل الجنسيّة المصرية إلا مطلع الخمسينيّات بعد زواجه من مصرية، بموجب مرسوم ملكي في عام 1951 م؛ وتوفي باكثير سنة 1969عن عمر ناهز التسع وخمسين سنة؛ وخلف الرجل مكتبة كبيرة من تأليفه في الشعر والمسرح والرواية والمقالة والترجمة…
تذكرت حديثًا شيقًا لباكثير عن خوف الناس من (عاقبة الشكوى)، أو ما نعرفه في أيامنا هذه بـ(التبليغ عن الفساد)، فمنذ سنوات ونحن نسمع عن (محاربة) الفساد، وانبثقت عن هذه الفكرة هيئات تحت مسميات عديدة…
والحقيقة أنه لا يضير اللص خطابات تنكر فعل اللصوص بالمطلق، أو تدعو إلى العفة والاستقامة فهي عنده صرخات في واد، لكن اللّص عدو للحارس الذي يهتك ستر مسلكه، ويبلغ عن جريمته أو يقاوم فساده…
وكثيرٌ من الناس يخاف عاقبة الشكوى، حتى وإن كان هو الضحيّة المباشرة للضرر، أما إذا تكررت الشكوى من شخص بعينه، فربما انقلبت إلى (اتهام) يلصق بالشاكي نفسه، وربما نفر الناس من هذا المتأفف، وضاقوا به ذرعا، ولا يرى في نهاية المطاف من بدٍ من الاستسلام…ومن قصة فرعون تعلمنا أن كل الفراعنة عبر التاريخ لم يتألهوا إلا بعد اختبار (هوان) نفوس شعوبهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الزخرف/54)، والاستخفاف لا يكون إلا بعد تجريب وامتحان.
كتب باكثير مسرحيته (أوزريس)، وجعل من الملك العادل أوزريس يبعث بجنوده بحثا عن رجلين وامرأة وقع عليهم الظلم من حاشية شقيق الملك…وكانت إيزيس زوجة الملك، ذات الحسن والجمال هي من استجوب الثلاثة، ولما سألتهم عما حلَّ بهم من ظلم أنكروا، ولأنها كانت على يقين بما وقع عليهم حاورتهم:
– إيزيس لـ(رجل): بلغني أنك قبضت على أحدهم وهم يسرقون ماشيتك، ثم أطلقته خوفا منه…
– الرجل: هذا حقٌ يا مولاتي.
– إيزيس: ومن هو؟
– الرجل: خاسور العطار يا مولاتي…
– إيزيس: أخشيت عصارًا هكذا !؟
– الرجل: ما خشيت العصار، ولكن خشيت من يعصر له العصار.
– إيزيس لـ(الرجل الثاني): وأنت كيف لا تقاضي رجلاً فقأ عينك بعصاه؟
– الرجل: إنه أحد ندماء شقيق (أوزوريس)، وإني أخشى يا مولاتي أن يفقأ عيني الأخرى…
ثم يخرج المظلومون الثلاثة إلى محكمة العدل بتوصية من إيزيس، تلك التي تقول لوصيفتها:
– إيزيس: أرأيت يا (نبتا) كيف يقاد هؤلاء المساكين إلى إنصافهم بالسلاسل؟!
– نبتا: إنهم يخافون يا مولاتي عاقبة الشكوى…