الخـــوف مـــن اللـــه عزَّ وجلَّ
د. يوسف جمعة سلامة*/
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(1).
جاء في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير في تفسير الآية السابقة: (يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مُشفقون من الله خائفون منه وَجِلونَ من مَكْرِهِ بهم، كما قال الحسن البصري: إِنَّ المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإِنَّ الكافر جمع إساءة وأمناً)(2).
من المعلوم أنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى هو سِمَةُ المؤمنين وآية المتقين، وخوف الله تعالى في الدنيا طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين، ودليلٌ على كمال الإيمان وَحُسْن الإسلام وصفاء القلب وطهارة النفس، كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(3)، وقوله – سبحانه وتعالى- أيضاً: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(4)، والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه،كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾(5).
فضل الخوف من الله عزّ وجلَّ
لقد مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين تملأ خَشْيَتُهُ قلوبهم، وتغمر مَهَابَتُهُ وجلاله نفوسهم، فالخوف من الله له ثوابٌ عظيمٌ وأجرٌ كبيرٌ عند الله تبارك وتعالى، فقد جاءت آيات القرآن الكريم تتلألأ بهذا المعنى حيث يقول عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}(6)، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ*جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}(7)، كما جاءت السُّنَّة النبوية تُؤكد هذا المعنى، فقد جاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما – قال: سمعتُ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يقول: (عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله)(8)، وكذلك ما رُوي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنّ النبي– صلّى الله عليه وسلّم – قال: ( قَالَ الله تعالى: وَعِزَّتِي، لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(9).
الخوف من الله عزّ وجلَّ… سبيل الرُّسُلِ والصالحين
إِنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى والهيبة من سلطانه يتناسب طردياً مع قوة الإيمان بالله، فكلما قوي الإيمان زاد الخوف من الله، وكلّما ضعف الإيمان قلَّ الخوف من الله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(10)، لذلك نجد الأنبياء والرّسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام- هم أشدّ الناس خوفاً ويليهم في ذلك المؤمنون الصادقون .
* فهذا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: الذي غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، كان أشدّ الناس خوفاً من الله، فيقول- عليه الصلاة والسلام- : (…وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ)(11).
كما جاء في الحديث الصحيح أنّ رسولنا –صلّى الله عليه وسلّم- قد طلب من عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن يقرأ عليه القرآن الكريم، قَالَ: ( قَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ»، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) (12).
* وهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- : ثاني اثنين إِذْ هما في الغار، الذي لو وُزِنَ إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه على إيمان الأمة، يقول – رضي الله عنه- : (لو علمتُ أنه لَنْ يدخلَ النار إلا رجل واحد، لَخِفْتُ أن أكون ذلك الرجل)، ويقول أيضاً: (لو كانت إحدى قدميّ في الجَنَّة والأخرى خارجها ما أَمِنْتُ مَكْرَ الله).
* وهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الذي ملأ الأرض عدلاً كان يقول : (وَيْلٌ لِعُمَر إنْ لم يُغْفرْ له)، وكان يَلْقى الصبيّ الصغير يأخذ بيده ويقول: (يا بُنَيَّ ادعُ اللهَ لي، فإنّك لم تُخْطئ بعد) .
* وهذا عثمانُ – رضي الله عنه– كان إذا وقفَ على القبرِ بكى حتى تَبْتَلَّ لحيته – رضي الله عنه-.
* وهذا الإمام الشافعي- رحمه الله- صاحب المذهب المعروف : الذي قضى حياته كلّها في خدمة العلم والدين ،نجده يَقْشَعِرّ من الخوف ويقول: (والله لا أدري أتصيرُ روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فَأُعَزِّيها ) .
هذه بعض النماذج التي تدلّ على خوف المؤمنين من الله سبحانه وتعالى، مع ما بشرهم الله سبحانه وتعالى به من المغفرة والرضوان.
غرس الخوف من الله عزَّ وجلَّ في النفوس
من المعلوم أنّ من علامات المؤمنين الصادقين وخصائصهم الخوف من الله سبحانه وتعالى وخشيته، وعدم الأَمْنِ من عذاب الله سبحانه وتعالى وسخطه، رغم أنهم يفعلون الخير الكثير ويقدِّمون الأعمال الصالحة التي يبتغون بها رضا الله تعالى، ولكنهم لا يغترون ولا يأمنون عذاب الله عزّ وجلّ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(13).
أمّا نحن اليوم، فإنّ الواحد منّا يظلم نفسه، ويفعل ما يفعل من الذنوب، وَيُقَصِّر في حقوق الله، ومع ذلك فهو آمن مطمئن.
فمثلاً: شخصٌ لا يُصلي ولا يُزكي ويتعامل بالربا، تقول له: هل أنتَ خائف من الله؟ يقول لك: وماذا فعلتُ حتى أخاف، ضَعْفُ الإيمان هو السبب في ذلك، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}(14)، والمؤمن الصادق يستعظم الخطايا حتى وَلَوْ لَمْ تقع منه، فبعض المفكرين في عصرنا الحاضر ظنوا أنه من المُمْكن أن يستعيضوا عن غرس الإيمان في النفوس وترهيبها من عذاب الله، وذلك بتنظيم القوانين الوضعية، لكنهم لم يُفْلحوا، وكانت النتيجة ازدياد الجرائم في كلّ يوم.
أمّا الإسلام الذي غرس الإيمان في النفوس وربَّى أبناءه على طاعة الله، فقد عاش أبناؤه آمنين مطمئنين في سلامٍ وأمان بفضل الله سبحانه وتعالى، ثمّ بسيرهم على هدي كتاب ربهم وسُنَّة نبيهم
– صلّى الله عليه وسلّم -، ففي خلال ثلاثة قرون من تاريخ الإسلام المُشرق وقعت ستّ سرقات فقط، بمعدل سرقة واحدة في كلّ خمسين سنة، حدث ذلك في بلاد الإسلام من الصين شرقاً إلى أسبانيا غرباً، ومن المعلوم أنّ ديننا الإسلامي الحنيف قد اعتمد في تربية أبنائه على الإيمان بالله، ثم الخوف من يوم الحساب، لذلك فإنّ المؤمن دائماً خائف من الله عزّ وجلّ، ولهذا تستقيم أخلاقه ويستقيم سلوكه.
ومن علامات الخوف من الله سبحانه وتعالى أن يلتزم المسلم بطاعة الله في جميع الأحوال، وأن يبتعد عن المعاصي والآثام في السِّرِّ والعلن.
إنّ الخوف من الله سبيل النجاح في الدنيا والآخرة، فاحرص أخي القارئ على أن تكون خائفاً من الله سبحانه وتعالى، وأن تُربي أولادك على ذلك، فإذا فعل ولدك شيئاً مُحَرَّماً فَذَكِّره بضرورة الالتزام بالشريعة الغَرَّاء وبالخوف من الله سبحانه وتعالى، وبأن الله مُطَّلِع على كلّ شيء ولا تخفى عليه خافية، عندئذٍ يُصبح ذلك سلوكاً له؛ لأن مَنْ أَدَّبَ ولده صغيراً سُرَّ به كبيراً، أما إذا تركناهم هكذا بدون عناية وتوجيه، فستكون النتيجة مُدَمِّرة وقاسية، فعلينا أن نربيهم على طاعة الله سبحانه وتعالى والخوف منه.
وصلّى الله على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- سورة المؤمنون الآية (57) 2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/332
3- سورة النازعات الآية (40-41) 4- سورة الرحمن الآية(46)
5- سورة لقمان الآية ( 33)
-6 سورة الملك الآية( 12) 7- سورة البينة الآية (7-8) 8- أخرجه الترمذي
9- أخرجه ابن حبان 10- سورة الأنفال الآية (2) 11- أخرجه الشيخان 12- أخرجه البخاري
13- سورة المؤمنون الآية (57-60) 14- سورة الأعراف الآية (99)
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com