ما دفــــتر التنوير؟
أ.د. عبد الملك بومنجل/
ضمن ركام المؤلفات التي تعلك مصطلح التنوير ولا تنوير، كتابٌ عنوانه «هوامش على دفتر التنوير»، للكاتب جابر عصفور، وزير الثقافة في حكومة موقعة الجمل.
يتساءل بعضكم: وما دفتر التنوير؟ وما موقعة الجمل؟ وماذا يفيدنا خبر كون الكاتب وزيرا ضمن حكومة ما؟
وأجيب عن هذه الأسئلة واحدا واحدا..
أما دفتر التنوير فهو، حسب أصحابه، كراسة كبيرة، يدوِّن فيها الكتّاب و«المفكرون» الذين آمنوا بأن النور يشرق من الغرب لا من الشرق، وأن التنوير يكون منفصلا عن الدين أو لا يكون، خلاصةَ نُقولهم من أفكار الغربيين ومذاهبهم وفلسفتهم في الحياة، مضافا إليها جملة آرائهم واقتراحاتهم في سبيل نهضة عربية تقوم على اقتلاع جذور الهوية الإسلامية ذات الطبيعة الغيبية والمرجعية النصية، وتعويضها بجذور غربية تقطع صلتها بالدين قطعا حاسما لا تردد فيه، وتقيم علاقتها بالحياة على أساس دنيوي محض، يتكفل العقل فيه بتدبير كل شؤون الحياة مستغنيا عن الغيب.
هذه خلاصة دفتر التنوير. كل ما كُتب في هذا الإطار، طبقا لهذه الأطروحة، وركضا في هذا الاتجاه، وسعيا لتحقيق ذلك الهدف، فهو صفحة من صفحات دفتر التنوير. هو ذو متون مركزية وهوامش فرعية. أما المتون فهي لرموز التنوير الكبار، وأما الهوامش فهي للتلاميذ والشرّاح والأنصار. وما كتبه جابر عصفور – كما يوحي به عنوان كتابه- هو هوامش تلميذ وفيّ، وشارِحٍ فهيم، وناصرٍ مخلص، يمضي على درب الرموز الكبار، متمثلا أطروحتهم الإبدالية العظيمة، راجيا من أتباعهم وأتباعه حفظ المسار.
وأما موقعة الجمل فالإشارة فيها إلى الحديثة لا القديمة. القديمة تعرفونها؛ أما الحديثة فبعضكم لا يعرفها، وتعريفها باختصار هو أن الرئيس المصري حسني مبارك فاجأه طوفان الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير مطالبة برحيل النظام، فتظاهر بالاستجابة للمطالب بتشكيل حكومة جديدة من صلب النظام نفسه، حظي فيها صاحب هوامش على دفتر التنوير بوزارة الثقافة، وحظي بعدها ميدان التحرير بجماعة من البلطجية يمتطون جِمالا وبغالا، يهجمون على المتظاهرين السلميين دهسا وعفسا لإجبارهم على مغادرة الميدان!
وقع ذلك وكاتبُ الهوامش عضوٌ في الحكومة الجديدة، وزيرٌ للثقافة، ليكون شاهدا على التنوير كيف ينتقل من الأوراق إلى الميادين، وليكون كاتبَ صفحة جديدة منيرة في دفتر التنوير!
وأما لماذا استحضار حديث الحكومة في حديث التنوير، فلأن العلاقة بينهما وثيقة، جدُّ وثيقة. إنه العلامة السافرة على أن رموز التنوير العربي روّادهم وتلاميذهم، كبارهم وصغارهم، ليسوا من التنوير في نسخته الغربية في شيء، فكيف بالنسخة العربية الإسلامية؟
التنوير في نسخته الغربية جوهرُه حق الشعوب (الغربية) في الكرامة والحرية والديمقراطية، واحتلال المفكِّر في المجتمع منزلةَ المراقب المنتقد الموجِّه المستقل عن السلطة، لا منزلةَ الخادم الخاضع التابع الخائن مصالحَ شعبه في سبيل مصالحه الشخصية.
والتنوير في نسخته الإسلامية خضوعٌ لله وحده، وولاءٌ للعدل بَعْدَه، وثباتٌ على الحق في وجه الإغراء مهما بلغ، وفي وجه الطغيان مهما ولغ، ووقوف مع المظلوم في وجه ظالم، ونفور من البغي في حكم حاكِم؛ فأين عصفورٌ، وأمثاله من أدعياء التنوير، من كل هذا؟ لا في العير هم ولا في النفير، ولكنهم يقفون مع الأنظمة الفاسدة ضد شعوبها، وأكثرهم يضحي بشعار التنوير من أجل الشعير!
لا علينا، فلن نجادلهم كثيرا في أفعالهم ولكن في أفكارهم. لقد امتلأ دفترهم بأفكار ليس لها من التنوير نصيب. إن أكثر ما يوردونه من أفكار هو أقربُ ما يكون إلى التزوير. وإن أكثر ما كتبوه وما يكتبونه ليس تنويرا يستحق أن يكون له هوامش، بل هو دفاتر على هامش التنوير. وإن لنا مع دفاترهم هذه وقفات..