الرعاة والكـــــلاب
أ. لخضر لقدي/
في الناس من يعتقد أنه يتمتع فطريا بالخبرة التي تؤهله لاتخاذ القرارات الصائبة، ويمتلك المهارات التي تؤهله لاتخاذ القرارات المناسبة، ومنهم من لدية إمكانيات ومع ذلك يستعين بالعلم والتخطيط ويقرأ قصص التاريخ، ويستخلص العبر والعظات من سير كبار الشخصيات، ومنهم العاجز الذي لا يحرك ولا يتحرك.
وفي الحياة البرية تجتمع الذئاب بسرعة عندما تشم رائحة الدم، كما تجتمع أسراب النسور والعقبان والغربان على الجيف في لمح البصر، وسرعان ما يجتمع الذباب على الفضلات، وتستفز قطعان الذئاب والجوارح والذباب فتجتمع سريعا لأنها تتحرك بمثيرات الشهوة والغريزة.
أما في حياة البشر فتلعب المصلحة والعاطفة والاستعجال والجهل بالنفس ما تفعله الشهوة والغريزة في عالم الحيوان.
ولكن النجاح في الحياة يكون للأقدر والأمهر والأيقظ والأفصح، أما النجاح التام فلا يكون إلا بالحِلم والعلم واِلأناة والرؤية والتدبير والدهاء والمبادهة والمبادأة والقدرة على حل المعضلات والشدائد.
وقد حدثنا التاريخ أنه اجتمع في بدايات تأسيس الدولة الأموية أربعة من دهاة العرب: معاوية بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير وللكبير.
والدولة المعاصرة تعتمد قراراتها الصائبة على مفهوم دولة القانون والمؤسّسات التي تشارك في التفكير والتخطيط واتخاذ القرار، وتعتبر المؤسسة ودولة القانون من أهم معايير الانتماء إلى العصر الحديث، ففي الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة ولا سلطة واحدة وإنما توجد مؤسسات وسلطات تمارس كل واحدة منها دورها وتتحمل مسؤوليتها، فهناك سلطة تشريعية رقابية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية، ويتم ذلك كله تحت نظر الرأي العام والإعلام الذي يعتبر السلطة الرابعة.
فإذا عدنا إلى بلداننا رأينا عجبا فقد اختصرنا الدولة في شخص واحد (أو أشخاص معدودين) لسان حاله أو لسان حالهم: أنا الدولة أو نحن الدولة، كأننا ننتمي إلى زمان غير زماننا ونعيش عصرا غير عصرنا.
ومما يؤسف له أن نخبة من أهل الفكر أو أهل الفتوى سخروا أنفسهم خدما لهذا النوع من الحكام، ونحن نرى ونسمع كيف يجمع هؤلاء قطعانا في لمح البصر سواء في السياسة أو في الفن أو في أي مجال يريدون، أما أن يحشدوا أهل الرأي والعقل، فذلك مطلب بعيد المنال وهو آخر شيء يفكرون فيه.
يقول وليام شكسبير: «إن حشد العقلاء أمرٌ معقّد للغاية أمّا حشد القطيع فلا يحتاج سوى راعٍ وكلب». وينسب إلى الإبراهيمي أو إلى سعد زغلول قوله: «قوم تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا».
وقد أظهرت الأحداث الأخيرة كيف أن الناس يصطفون خلف حكامهم الذين يمارسون التآمر والخيانة ويجلبون الصهاينة إلى أرضهم، فإذا تكلمت هذه النخب بررت وزورت وحرفت الحقائق لإرضاء أولياء النعمة.
لقد استغل هؤلاء كل ما من شأنه أن يديم سيطرتهم ويعزز هيمنتهم، فاستعملوا الدين وأهله من أجل تحقيق أطماعهم ومآربهم،
وعملوا على صناعة إسلام خاص مكانه المسجد لا يبارحه فلا يتدخل في شؤون الحياة، إسلام يمجد الحاكم وإن سرق وطغى وظلم، وإن سلب الحريات وسرق الثروات، إسلام يُوظف عند الحاجة فقط ثم يرتب في الأرشيف.
وشأن العالم أن يدافع عن الدين، ويناصر قضايا الأمة الكبرى كفلسطين، ويرفض الظلم ويدفع الطغيان، فإذا غابت هذه المعاني فإن من يدافع عن الحاكم الظالم الخائن من أجل الوظيفة لا يعتبر عالما بل مرتشيا ومرتزقا.
واستعملوا الأحزاب للسير في ركابهم فما كان من تطبيع محرما بالأمس وجدوا له المبررات، وما كان ممنوعا بالأمس استحلوه وصنعوا له نصوصا من القانون.
واستعملوا النخب الفكرية تبرر وتزين للناس سوء أعمال الحكام، وتستر عوراتهم المكشوفة.
ولله در مصطفى صادق الرافعي الذي قال في وحي القلم: «كم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفَجَرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحُجة فليست الإنسانية بهذه السهولة التيِِ يظنها من يظن…
وإلا ففيمَ كان تعبُ الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس»ِ.
ولا يُلام الذئبُ في عُدوانه… إنْ يكُ الراعي عدوَّ الغنم.