مالك بن نبي يعانق الشهيد العربي بن مهيدي/ حسن خليفة
نظمت كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية (قسم العلوم الاجتماعية) بجامعة العربي بن مهيدي ـ أم البواقي، ملتقى علميا، وذلك خلال يومي: 28 و29 نوفمبر الماضي، بعنوان “فكر مالك بن نبي بين مظاهر الجمود وآليات التفعيل”، بحضور عدد كبير من الأساتذة من جامعات الوطن، وبحضور المهتمين من مختلف الجامعات ومراكز البحث، وطلبة الدراسات العليا.
وأتصور أن هذه الميزة هي ما يجب الانطلاق منه في الحديث عن الملتقى، وأعني بها التقاء المهتمين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية من الجامعيين والأكاديميين وطلبة الدكتوراه على موضوع ذي صلة بالاجتماع والإنسان والثقافة والفكر والمجتمع، والواقع والأزمات والحلول المناسبة لها، وبالأخص إذا كان هذا الواقع جزائريا، والمتحدَّث عنه جزائري، وهو مالك ابن نبي.
إن الأمر يحتاج ـ إذن ـ إلى ملاحظتين أساسيتين كل واحدة لها تفرّعاتها، تتصل الأولى بالملتقى نفسه، وتتصل الثانية بمالك بن نبي، وما يجده فكره وأمثاله من حصار وإهمال وسعي لـ”الإماتة” والمحو والإبعاد.
فأما ما يتعلق بالملتقى وهو واجب الذكر:
1ـ ما ميّز الملتقى هو تمحوره لدى الجامعيين بصفة خاصة، وهي النخبة المثقفة التي تحتاج إلى مثل هذه الأعمال العلمية والفكرية في شكل ملتقيات أو ندوات وسواها، من صيغ النقاش والمدارسة والتعلّم والتعليم. فيتحقق الاقتراب من التخصص بشكل أفضل؛ وسيكون أفضل من ذلك لو اعتمدت هذه الملتقيات ضمن صيغ التقييم والتقويم للطلبة (ماستر ودكتوراه)، فيكون الحضور إيجابيا وتفاعليا، وتكون المتابعة أقوى وأكثر تركيزا.
2 ـ انفراد الملتقى بشكل واضح بالورشات، فمع الجلسات العلمية العلنية كان من جميل ما قدّمه هذا الملتقى تلك “الورشات” المتخصصة؛ حيث أشرف على كل ورشة أستاذ أو أكثر(مقرر)، ودار الحوار فيها صريحا، وجرى النقاش فيها قويا وحادّا في موضوعات تتصل بمحاور الملتقى، وقضايا الفكر المركزية، وقد حضر تلك الورشات (السبع) أزيد من مائة باحث وباحثة في هذا المجال، فضلا عن الطلاب والمتابعين لأشغال الملتقى، وقد أفادنا بعض الأساتذة بأن الورشات كانت ـبالفعل ـ ميدان إعمال فكر ونقاش ومدارسة معمّقة، يُرجى منها الخير الكثير، ويُستحسن أن تعتمدها الملتقيات كآلية لتعميق الفكر وإعطاء الوقت الكافي للمداخلات، وأيضا لإعطاء صبغة التخصص قيمتها، وما يكفي من الوقت فيها.
3 ـ إلى جانب كل ذلك فإن أشغال هذا الملتقى الكبير جرت في حقلها الاختصاصي الرئيس، في رحاب كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية التي احتضنت الملتقى ونظمته، وهي بالمناسبة كلية حديثة عهد بجامعة الشهيد العربي بن مهيدي بأم البواقي، فقد تم تأسيس أقسامها منذ وقت قريب (2009م)، وكانت باسم كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ثم تحوّلت إلى التسمية الحالية (كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية) سنة 2013م. ويقدّر عدد طلبتها بنحو 2500 طالب وطالبة، كما يؤطرهم نحو 110 أستاذ من الدائمين، وعدد من المؤقتين. بما يعني أن الكلية أشبه بمخبر لدراسة الأفكار الاجتماعية والإنسانية، وأساتذتها وطلابها هم الأولى بمثل ذلك، وكلما كان التخصّص قريبا كلما كانت النتيجة أفضل.
الملاحظة الثانية: فهي تتعلق بمالك بن نبي نسفه -رحمه الله؛ فمما ينبغي تسجيله هنا هو تعرّض مالك ابن نبي لحصار محكم، وسعي محموم لإبعاده عن المثقفين والمهتمين بالشأن الفكري والديني والإصلاحي والثقافي، والغريب أن النقائض التقت وتلتقي في هذا الشأن؛ فالخصوم على طرفي نقيض في توجهاتهم وتصوّراتهم، ولكنهم يلتقون في “ثلب” وحصار مالك بن نبي، وهم من أطراف عدة:
أـ الطرف الأول: يمكن تسميته بالنخب المتنفذة والقريبة منها، وهو طرف كاره للدين واللغة و الثوابت، وهو يعمل على طمس ملامح الهوية الفكرية الأصيلة لمجتمعاتنا الإسلامية في أقطار الإسلام المختلفة عامة، وفي أقطار المغرب العربي الإسلامي والجزائر تحديدا؛ لأنه يعمل بتأثير من سطوة وسيطرة التغريب، وتيار الفرنسة المتجذر في المفاصل الكبرى للدولة والمجتمع، مما يجعل أجندة “الوصاية” الأجنبية أشبه بخريطة طريق مملاة على النخب الحاكمة والقريبة من الحكم. ويلاحظ ذلك كل من يستطلع الأجواء في طبقات الحكم والإدارة والقرار، وهذا الطرف التغريبي هو وكيل الوصاية المنفذ لما ترسمه من خطط وبرامج، وأخطر تلك البرامج ما يتعلق بـ”ضرب” الفكر الصحيح المشعّ، سواء للفكر نفسه أو أعلامه ورموزه، وضمن أهداف “الضرب” كل ما له صلة ببناء الإنسان، وصياغة المستقبل والعمل على إقامة المشروع المجتمعي الأصيل، والمستجيب للتطلعات الشعبية العميقة في كل الأقطار التي “انعقتقت” من سجن الاستدمار البشع البغيض، وليس مالك بن نبي سوى رمز من رموز كثيرة، يعمل هؤلاء ليلا ونهارا لطمس وإبعاد تلك الرموز عن مجال التأثير.
ب ـ الطرف الثاني: وهو طرف محسوب على الإسلام والمسلمين، ولكنه أشد وأنكى في عداوته وعدوانه وكراهته للفكر الإسلامي الصحيح هو الآخر، ويكفي من ذلك أن تعلم أن “التشكيك” هو المبتدأ والخبر في تسويق هذا الطرف المتمسلم للمعلومات والأفكار عن أمثال بن نبي بأسلوب لا يتورع عن التجريح والإهانة وكيل التهم يمينا وشمالا.
ومن يقرأ بعض كتابات ورموز هذا الاتجاه يستطيع أن يقف ـ ويا للهول ـ على عظم المُصاب في هذا المجال؛ عندما نكتشف أن هؤلاء ـ لجهلهم ـ أقوى أداة من أدوات الهدم في أيدي الطرف الأول. وإلاّ كيف نفهم أن يُحشر أمثال بن نبي مع الشيوعيين والمنحرفين؟ تأمل ما يقوله أحد السلفيين في مالك بن نبي: “مالك بن نبي تربى في أحضان الفرنسيين ونهل من معين الشيوعيين ثم تكلم في الشريعة فأتى بالعجب؛ فهو من الرويبضات الذين جاء في الحديث إن الناس يطلبون العلم عندهم”!!
ج ـ الطرف الثالث: هو طرف إسلامي لا غبار عليه، ولكنه لفرط “تحزّبه” وضعف تبصّره، وإيغاله في دائرة الحماسة الحركية والارتباط العاطفي بهيئات وأعلام وأفكار حزبية وفئوية، فقد عمل على محاصرة مالك بن نبي بكل الطرق، وقدم للطرفين السابقين – من حيث لا يدري أو من حيث يدري؟!- خدمات جليلة بالعمل على إبعاد مالك بن نبي عن دائرة الضوء، وإلصاق بعض الشبهات به، وسعى سعيا حثيثا في إبعاد الباحثين والمهتمين والمثقفين عن هذا المثقف التحليلي الذي فقه الواقع بفقهه للقرآن الكريم، ودراسة آثاره العجيبة (القرآن) في النفوس، ودوره البديع في تشخيص الأدواء، وتقديم ما أمكن من الأدوية والحلول.
تبقى كلمة لا بد منها: إن ابن نبي ليس حكرا على أحد، ولا على هيئة، أو منظمة، أو حزب، أو مؤسسة، أو تيار أو غير ذلك، وإنما هو ـ مثله مثل أي مفكر ومصلح وقائد، ملك للأمة كلها، من عمل واجتهد وسعى في تنزيل فكره وتصوّراته على أرض الواقع فهو أحقّ به، وأهل لاحتضان رؤاه وتفعيل منهجيته، ومن بقيّ متفرّجا…! فسيفوته القطار حتما.