قضايا و آراء

هل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم خرافة؟/ علي حليتيم

ارتفعت في السنوات الأخيرة بعض الأصوات الناقدة والناقمة على ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، معتبرة إياها أسطورة من الأساطير التي اخترعتها الأصولية الإسلامية لتبرير الدين في عصر العلم وللدعاية له باستعمال أعظم أدوات هذا العصر التي هي العلم!

ويقول هؤلاء الناقدون إن ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن هي من مظاهر الإنحطاط الحضاري والتخلف والقروسطية والانسداد الذي تعيشه الأمة الإسلامية التي عِوَض أن تتجاوز عقدها وتتعرف على أزماتها الحقيقية وتمضي نحو المستقبل فإنها ترجع إلى الماضي لتبحث فيه عن الحلول لأدوائها وآلامها في حركة تعبيرية عن الكبت والفشل الذي يعوض الخرافة عن العلم وتكون محصلة ذلك هو تفويت أسس النهضة العلمية في الأوطان العربية!

وموضوع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة قائم في نظر هؤلاء على أساس أن المسلمين لم يفلحوا إلى غاية اليوم في التفريق بين حقائق الدين وحقائق الإيمان وأنه لا علاقة للدين بالعلم ولا علاقة للعلم بالدِّين، وأن القرآن كتاب دين وليس كتاب علم، وأن فكرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة لها تأثير سلبي على العقل العلمي العربي؛ لأنها تدفعه للبحث عن العلوم في النصوص الدينية، وهذا ما لا يمكن بحال من الأحوال، ولا يعقل أن يصرف الغرب مئات الملايير من الدولارات على البحث العلمي في مخابره وجامعاته ومراكزه، ثم نأتي نحن فنأخذ خلاصات هذه البحوث جاهزة لنقول إنها موجودة في القرآن!

ويقول الناقدون أخيرا إن موضوع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، لا ينتج علما ولا يساهم في تكوين العقل العلمي العربي؛ بل بالعكس سيكرّس الخرافة ويكرس مرجعية التراث الذي هو كله أو جله خرافة علينا طرحها حتى نتحرر من ربقة الماضي وننطلق لندخل في عصور العلم.

وعلى هذا الطرح لنا عدة ملاحظات:

أولا: دعوى هؤلاء أنهم يدافعون عن القرآن ضد من يحمّلونه ما لا يحتمل وأن هناك مؤامرة الغرض منها إلصاق كل العلوم بالقرآن بشكل متعسف حتى ينفر العلماء والمثقفون من القرآن على قاعدة: إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده، دعواهم غير صحيحة وواقع الحال يكذب هذا الكلام؛ لأن هؤلاء الذين يرفضون موضوع الإعجاز العلمي في القرآن علمانيون في الغالب، وهم لا يدعون فرصة لا شاردة ولا واردة إلا وتهجموا على الإسلام خلف ستار الحريات والحقوق، والمناداة بالعلمانية كشكل من أشكال النأي بالإسلام عن التوظيف السياسي كما يدعون، ولهذا لا يمكن أن نسلم أن رفضهم لفكرة الإعجاز العلمي في القرآن هو دفاع عن الدين.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن موضوع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة موضوع واسع جداً، وقد ولجه الصالح والطالح والخبير والمبتدئ والكفء والعيي وانتشر بين الناس، فلا يمكن أن نحكم عليه كله حكما واحدا جملة واحدة؛ بل ينبغي فيه التفصيل والتفريق وقبل ذلك فهم ماهية الموضوع والهدف منه، والحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول الصوليون، أما القول فيه قولا واحدا برفض الفكرة من أساسها فهو مثل قبول كل ما يأتي باسم الإعجاز جملة واحدة وكلاهما لا يحمدان.

ثانيا: أن الحقيقة التي يراد إخفاءها أن العلمانيين منزعجون من هذا الموضوع؛ لأنه يؤسس لحوار دائم بين العلم والدين، ولأن أكثر من يسلم في العالم الغربي هم من العلماء والباحثين، ولأن هذا الحوار الدائم هو أعظم إعجاز علمي في القرآن والسنة على الإطلاق؛ لأنه أثبت بشكل قاطع نهائي أن القرآن والسنة يرحبان بالعلم والبحث والتدقيق والنظر، مسقطين بذلك كل دواعي الطلاق بين العلم والدين الذي حدث في أوروبا الكنسية، حين كانت الكنيسة تحرم البحث وتجعل من الخرافات عقيدة لا يجوز الشك فيها، لكن بدل أن يفرح العلمانيون بكتاب الله الذي يقول لنا (سيروا) و(انظروا) راحوا يهرفون بما لا يعقلون ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ لأن موضوع الإعجاز العلمي لم يقدمه المسلمون على أساس أنه هو  (العلم) وغنما قدموه على أساس أنه موضوع من موضوعات الحوار بين العلم والدين الذي هو أحد المواضيع الفلسفية التي لا تزال تناقش حتى اليوم في كل الجامعات الغربية وتنشر فيها الكتب والمقالات دون اعتراض من أحد.

وما أسخف من قال إن الدليل على أن عقولنا خرافية هو أن ميزانية البحث العلمي لا تتعدى واحد في المائة في الوطن العربي! هل منع الإعجاز العلمي في القرآن الدول من زيادة ميزانيات البحث العلمي؟! الذين يضعون ميزانيات الدول العربية علمانيون في الغالب الأعم فما الذي يمنعهم من زيادتها لو كانوا حقا يريدون للعالم العربي أن يدخل عصر العلوم وما الذي يمنع جامعاتنا من العطاء والإنتاج وهي التي لا علاقة لها بالإعجاز العلمي في القرآن ولا بالقرآن حتى؟!

ثالثا: العلم لا ينافي الحرية، والعقل العلمي ليس متجبرا ولا متسلطا. ولو فكر هؤلاء قليلا لوجدوا لموضوع الإعجاز العلمي في القرآن فوائد جمة من جهة أنه دفع الناس، وهم في الغالب الأعم من غير الباحثين، للاهتمام بموضوعات علمية شتى من علم الأجنة إلى الانفجار الكبير وبداية الكون، مما ساهم بقدر غير قليل في نشر الثقافة العلمية وَمِمَّا قد يساهم في نقاش علمي في المجتمعات العربية، لو كان المجال مفتوحا للكتابة والنشر والتأليف بدل الغلق والمنع والتضييق، الذي تمارسه الدوائر العلمية والثقافية الرسمية التي يسيطر عليها العلمانيون.

إن الساحة العلمية الغربية لتعج بالإنتاج المتناقض والغريب والخرافي لكن تقديسهم للحرية من جهة وإدراكهم أن الإبداع يأتي من طَرق كل السبل، ولو كانت تبدو وهما للوهلة الأولى، يمنعانهم من التدخل في مسارات العلم والثقافة في المجتمع، ويدعون المجتمع المدني يرسم مساراته ويجد طريقه بنفسه، زيادة على أن تحقيق المعارف objectivation لا يتم ألا عن طريق النقاشات المفتوحة في ظل الحريات وتطور مجتمعات العلوم، بدل الوصاية التي يمارسها العلمانيون والمواقف الأيديولوجية التي لا علاقة لها بالعلوم كما لم يعد خافيا.

رابعا: القرآن كتاب هداية وليس كتاب علم لكنه يحوي من الإشارات العلمية قدرا غير قليل، ليبين للناس أنه والعلم قد خرجا من مشكاة واحدة، وأن الأخذ بالقرآن أخذ بالعلم لأنه يدل عليه ويأمر به، فكان ينبغي على العلمانيين أن يزنوا كلامهم قبل أن يحثوا الناس على ترك هذا الموضوع الذي فتح عليهم آفاقا عظيمة من الثقافة العلمية والمناقشات الساخنة، بدل ثقافة الاستهلاك دون نظر ولا تفكير التي يتبناها عملاء الغرب الفكريون ويبثونها في قنواتهم ومطبوعاتهم، التي تهدر فيها الملايير بدل أن تسخر في العلم والبحث.

وقد شكل الإعجاز العلمي في القرآن علامة فارقة، بين الإسلاميين الذين يريدون أن يأخذوا علوم الغرب التقنية التي لا دين لها ويتمسكون بقيمهم القرآنية، وبين العلمانيين الذين لا يهتمون بالعلم كثيرا فجلهم من الأدبيين والفلاسفة الذين لا يدركون قيمته، لكنهم يريدون أن يستنطقوا العلم عنوة ويجبرونه على أن لا يتوافق مع الدين، وهو لم ولن يقول هذا، ويريدون أن يأخذوا من الغرب القيم قبل العلم ويفرضونها على مجتمعاتهم بقوة الحديد والنار في عصر الحريات وحقوق الإنسان.

قال الله عز وجل:

(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) صدق الله العظيم

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com