ليتفكروا

عوائـــق النهضــــة السلبــيــــة وفــقــــدان الفعـــاليــــة

د. بدران بن الحسن */

ذكرنا في مقالنا السابق أن جهود أمتنا في تحقيق النهضة الحضارية تعترضها عوائق كثيرة؛ داخلية ذاتية وخارجية آتية من خصوم أمتنا. وعلينا لتحقيق ما نصبو إليه أن نبحث في معيقات خروجنا من التخلف وتحقيق التحضر، ونفرق بين المعيقات الداخلية وبين المعيقات الخارجية، ونحدد السبيل لتجاوز المعيقات وتحقيق نهضة حضارية.
ونقصد بالمعيقات الذاتية تلك النابعة من ذاتنا الحضارية بفعل ما أصاب المسلمين من أمراض تصيب المجتمعات والحضارات، كما تقضي سنن الله في خلقه، التي لا يمكن أن تحابينا لأننا مسلمون، بل يصاب بها كل من لم يتحقق بشروط التحصين منها. وهي معوقات موزعة على دوائر وجودنا الثقافي والنفسي والاجتماعي والسياسي والاخلاقي والفكري. اما المعيقات الخارجية فهي فعل قوى النظام العالمي المتعددة التي تعمل على تعطيل تحقيق نحضتنا، والرجوع إلى حلبة التاريخ، والمساهمة بفعالية في الحضارة الإنسانية، وتحقيق الريادة والشهادة. وقد أشار بن نبي في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» وفي غيرها من كتبه إلى كثير من المعيقات التي تؤخر تحقيق نهضتنا الحضارية.
ولعل من أهم تلك المعيقات، هو ما نعانيه اليوم من سلبية، حيث نكتفي بالبكائيات، ونلعن الوضع، ونكثر العويل، والتغني بالمؤامرة علينا من العالم، بينما نحن لا نكاد نقدم أي شيء يساعد في تحقيق أهداف أمتنا في الحرية والتنمية والنهضة واسترجاع كرامتها وحضورها في العالم. مما جعل تفكيرنا اليوم، في معظمه، تفكيرا نظريا، غير مرتبط بأهداف عملية، ولا قدرة على تحويل قيمنا وافكارنا وأهدافنا من أجل أمتنا، على مشاريع عملية وبرامج وسياسات تغير من أوضاعنا إلى الأحسن.
وفي عالمنا اليوم، فإن ما يفصل بين المجتمعات والشعوب هو فعاليتها، حيث يوجد في عصرنا تشابه واختلاف بين المجتمعات، ولكن الاختلاف اللافت للنظر يكمن فيما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر (تأملات، ص31). حتى أن التقدم أو التخلف الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية، إذ يجده يقسم العالم إلى شطرين، أحدهما يتميز بالفعالية ويطبع بها كل جهوده وسلوكه، والآخر يتميز بالسلبية والتسيب في كل مظاهر حياته.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مشاهدة النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية التي توجد في كلا الإطارين الحضاريين. وسنجد نموذجين اجتماعيين مختلفين؛ أحدهـــما النــمــوذج الغـــربي يطـــبعه التنــــظــيم والحركية والفعالية في واقع حياته، والآخر النموذج المتخلف، تكتنفه ضروب من التسيب والسلبية. بالرغم من أننا لو رجعنا ثلاثة أو أربعة قرون إلى الوراء، لوجدنا الصورة معكوسة تمامًا، فكل ضروب النشاط والفعالية يجدها على محور طنجة-جاكرتا، وكل ضروب التسيب والسلبية والفوضى يجدها على المحور الغربين كما يقول بن نبي.
وما نعنيه بذلك أن السلبية والفعالية، ليستا صفتين لصيقتين بالغرب أو الشرق مطلقا، بل تتعلقان بالوضعية التاريخية لمجتمع ما؛ أي بنمط الثقافة السائدة، أهي ثقافة نهضة أم ثقافة تخلف. ذلك أن الثقافة إما تكون وسطا تتشكل وتنمو فيه النهضة الحضارية، وإما تكون شبكة من النفايات و»الأفكار الميتة» والأفكار المميتة» التي تطبع ثقاتنا اليوم وتجعلنا خارج إطار الحضارة، مثل إنسان ومجتمع (ما بعد الموحدين) في العالم الإسلامي (تأملات، ص 111-112).
وهذه السلبية وغياب الفعالية في مجتمعاتنا، راجعة إلى أننا لا نملك في الغالب الأعم رؤية واضحة لما ينبغي فعله، ولا حددنا نموذجنا الذي نسعى إليه بدقة، لنرسم له منهجا لتحقيقه. فبقيت أعمالنا وجهودنا الفردية والجماعية، إلا القليل، تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم نخــتره، بل فُـرض عليها تلقائــيًا من أذواق القوم.. وما يبدو أنه اختيار للنموذج الغربي هنا أو هناك في العالم الإسلامي، هو في حقيقته من قبيل (وضع الثور قبل المحراث)، وتكديس لمنتجات الحضارة الغربية. مع تنكر للجانب الإيجابي فيه، وتقليد الجانب المنحط منه (شروط النهضة، ص 40 – 46؛ الإفريقية والآسيوية، ص 89 – 90).
وحتى نخرج من سلبيتنا، علينا أن نستعيد خاصية مهمة من أهم خصائص الفكر والسلوك الإسلامي في زمن التحضر؛ هذه الخاصية هي خاصية الربط بين العلم والعمل. فالعلم الذي لا يترجمه عمل يظل ترفا لا قيمة له. ولعلنا لو نظرنا في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا الصلة وثيقة بين القول والعمل، والجمع بينهما في توازن. وهذا هو الهدي الذي جاء الإسلام ليؤسس عليه ثقافة المسلم؛ أن يقول ويعمل.
إضافة لمبدأ أو خاصية الربط بين القول والعمل، فإن الخروج من السلبية، وتحقيق الفعالية، يتطلب منا أن نصوغ حلول مشكلاتنا وقضايانا وفق معالم مضبوطة يراعى فيها الحال والمآل. حتى لا نطبق حلولا انتجها مجتمع يعيش مرحلة الترف بتعبير ابن خلدون، أو مرحلة الحضارة بتعبير بن نبي، على مجتمع هو مراحله الأولى يكابد للخروج من تخلفه، يواجه مشكلات البناء لا مشكلات الوفرة، ومشكلات التأسيس لا مشكلات الاستمرار ومشكلات ما قبل الحضارة لا مشكلات ما بعد الحضارة، ومشكلات ما قبل التحديث لا مشكلات ما بعد الحداثة والتحديث. لأن تجاهل الوضعية الحضارية التي نعيشها، ومآل الفكرة التي ننتجها أو ننقلها سيقود إلى الارتكاس والتباطؤ والانحراف عن تحقيق الهدف (تأملات في بناء الوعي الحضاري، ص64).
ونختم مقالنا هذا بمقولة ذهبية لمالك بن نبي في شأن كيفية الخروج من السلبية وتحقيق الفعالية؛ «لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها، بل عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته. أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب فإن في ذلك تضييعا للجهد ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار. وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية، ناتجة عن فكرة معينة تؤرخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي في حدود الدورة التي ندرسها. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية (شروط النهضة، ص64-65).

*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com