الحـــق الـمر

في مليانـــــة…

يكتبه د. محمّد قماري/

حظ المدن والأماكن من الشهود والحضور كما هو حظ البشر، فبعضها حاضر متجدد، وذائع الذكر، وبعضها خامل لا يكاد يعرفه إلا الأقربون منه، وكذلك حظها من الجمال والألق فبعضها يخطف الألباب بسبب نهر يسري في أرجائها أو مرتفع يسند ظهرها تكسوه خضرة ونضرة، وبعضها تتخلله واحات غناء…
ومدينة مليانة من تلك المدن التي تقع في أحضان جبل زكار، وهو جبل مجاهد فلقد سخر الأمير عبد القادر مناجم الحديد فيه ليصنع منها سلاح المقاومة، وتاريخ مليانة عريق، فقد شهدت حضور الفينيقيين والنوميديين ودخلت تحت حكم موريتانيا القيصرية، واستعمرها الرومان وخربها الوندال واحتلها البيزنطيون، وعادت لها الحياة مع الدولة الزيرية، كما استظلت بحكم الحماديين والمرابطين، وناصرت الأمير عبد القادر، ومنها خرج الشهيد علي عمار (لابوانت) أحد أبطال معركة الجزائر.
وقد يظن بعض القراء أنني استدعي الحديث عن مليانة من وحي تلك الجريمة الشنيعة، جريمة قتل أحد أبناء مليانة منذ أسابيع خلت، وحُقَّ لهم أن ينساقوا وراء مخيلتهم وهم يقرؤون العنوان، إذ قتل جمال بن إسماعيل على تلك الشاكلة البشعة المقززة، يتعدى جريمة القتل إلى ما وراء المشهد المروّع، ويجعلنا نشكك في هوية الجناة وإلى أي فصيل من المخلوقات ينتمون…
إن عقل الإنسان قد يتحوّل إلى (ناب أفعى وقرني ثور)، على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، لكن ناب الأفعى لا يبرز وقرني الثور لا تنطحان إلا عند الاحساس بالخطر!
والحقيقة أنني قعدت للكتابة عن مليانة، ولم يكن هدفي الحديث عن ذلك الشاب الذي جعل منه جلادوه رمزًا، وكان سببا في تعرية مشهد مخيف يجري من وراء ستار صفيق، ولعل بقايا رماد ذلك الجسم المحترق، قد هبت لتطمس عيونا كانت تتربص بما هو أفظع وما هو أبشع، وكما كانت دماء علي عمار (لابوانت) تسيل في القصبة، وجسمه يتشظى بتفجير مخبئه تفكك آخر عقد الاستعمار، فربما ساهمت أشلاء جمال ودمائه في فك عقد بقايا الاستعمار!
قعدت للكتابة وبين يدي كتاب صغير الحجم، كتبه صديقنا الدكتور أحمد منور: (الجزائر في كتابات الأدباء الفرنسيين في القرن التاسع عشر)…واختار الدكتور منور نصوصا لكبار الأدباء الفرنسيين ممن زار الجزائر، وكما قال: (فيها الكثير من الحقائق مثل ما فيها الكثير من الأباطيل)، منها قصة (رقصة الجن) لتيوفيل، و(جُمان) لبرسبير ميريمي، و(الجراد) و(سام الآغا) لدوديه، و(علُّومة) و(ذات مساء) و(السلسلة العربيّة) لغي دي موبسان…
ولعل قصة (في مليانة) التي كتبها ألفونس دوديه لها سحر خاص، فلقد زار الكاتب الجزائر سنة 1861 بتوصيّة من أطبائه بعد أن أصيب بمرض السل الرئوي، وكان أطباء ذلك الزمان قبل اكتشاف دواء السل يرسلون المرضى إلى المناطق المرتفعة والمشمسة، ومنها في الجزائر جبال الشريعة في البليدة ومرتفعات مليانة، وجبال المشروحة في شريعة تبسة، كلها أقاليم وجهات ينصح بها الأطباء مرضى السل للاستشفاء…
وعين الأديب كعدسة الكاميرا اللاقطة، ترصد المشاهد التي تمر بها، وسرعان ما تتقلص عضلات أصابع الكاتب، فيحوّلها إلى جمل مقروءة تضج بالحركة، وإذا بالقارئ وهو في مكانه يشمُ الروائح، ويرى من خلال الحروف قطرات المطر، وتلفحه نسمات الرياح أو أشعة الشمس، ويسمع حفيف أوراق الشجر، ويضحك من مشاهد السخرية، وينقبض لآلام وقهر نفوس لا يعرف أصحابها، وكأني به يتلمس بيديه أشياء جميلة وأخرى قبيحة، وينتصر وينحاز لشخصيات، ويعادي ويتنكر لأخرى، كل ذلك وهو يقرأ كلمات ليست كالكلمات…
ولقد أدرك الغربيون خطر الكتابة والقراءة، ورصدوا لكتابهم ما يغنيهم عن الاشتغال بغير الكتابة، فالكاتب عندهم لا يضطر للتكسب بغير قلمه، وكل ما يكتبه في حله وترحاله تتلقفه الصحف، ويتلقى عنه الجزاء الأوفى، وتعمل دور النشر على نشر ما كتب، فإذا اجتمع إلى الجزاء المادي ذلك الاحتفاء والتكريم، عاش الكاتب بقلمه ولقلمه…
ودوديه كتب عن مليانة بعين أمه فرنسا، ألم يقل ألبير كامو في آخر الخمسينيات من القرن الماضي يوم سئل عن استقلال الجزائر: (لو خيّرتُ بين الحرية وأمي لأنحزت لأمي)، ومليانة في نص دوديه أرض خصبة ومعطاءة، تتطلب من سلطات الاحتلال الاهتمام بها، وسكانها (العرب) غير جديرين بها، إذ اجتمع فيهم كل آفات التخلف، وحتى عبد القادر (الأمير) في نصه هو مجرد سفاح! وجعل من عمر حفيد الدايات عميلاً لسلطات الاحتلال، ويشرب الخمر في بيته على حين غفلة من خدمه انتقامًا من عبد القادر وجيشه…
يسوق دوديه كل ذلك في أسلوب قصصي مبطن، يصل إلى نفس المتلقي المسترخي، فيحتقر (العربي) المتخلف ورائحته العطنة، ويتطلع لبهاء وجمال المستعمر الأشقر الذي يذهب بلب الحسناوات، ويلفت النظر إلى تلك الجنة والأرض الخصبة، وقد جاء من يخرج كنوزها ويبرز مفاتنها…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com