حقيقة النجاح والفشل في الحياة(1)
أ.د/ مسعود فلوسي*/
النجاح في معناه العام هو تحقيق الأهداف المرسومة؛ فالإنسان الناجح هو من يضع لنفسه أهدافا ويسعى لتحصيلها ويتوصل بالعمل والجد والاجتهاد إلى تحقيقها. أما الإنسان الفاشل فهو من ليس له أهداف أصلا، أو له أهداف ولكنه يتمنى تحقيقها دون أن يسعى لذلك، أو يسعى لتحقيقها ولكن من خلال طرق ووسائل لا توصله إليها.. هذا هو مفهوم كل من النجاح والفشل بصفة عامة، وهو في عرف أغلب الناس في مجتمعنا وفي مختلف المجتمعات البشرية في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ذو بعد دنيوي صرف، فالناجح في نظرهم هو من حقق النجاح في دنياه وعاش مستمتعا به، والفاشل هو من لم يستطع تحقيق ما يريد في هذه الدنيا ولم يتمكن من الاستمتاع به. أما المفهوم الأخروي للنجاح والفشل فهو مجهول أو متجاهل أو مغفول عنه، بل هو ليس محل اهتمام عند معظم الناس..
اختلاف الناس في المراد بالنجاح الدنيوي
ثم إن الناس بعد ذلك متباينون في تقدير النجاح الدنيوي، حيث يختلفون في تحديده بحسب ما يهواه كل منهم وما يحبه وما تميل إليه نفسه من متاع الحياة الدنيا.
فالنجاح بالنسبة لأكثر الناس يتمثل في تحصيل المال بمختلف صوره وأشكاله وأنواعه؛ من نقود سائلة، وحسابات بنكية، وعقارات من مختلف الأصناف، ومراكب من مختلف الأنواع، والاستمتاع بهذا المال إلى أبعد حد وفي مختلف مجالات الحياة؛ أكلا وشربا ولباسا ومسكنا وزواجا وسفرا وسياحة وكل ما تحدث به النفس وتشتهيه، معتبرين المال وسيلة تفتح بها كل الأبواب. وفي هؤلاء يقول الله عز وجل: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
والنجاح بالنسبة لفريق آخر من الناس يتجلى في الترقي في مختلف المناصب من أدناها إلى أعلاها، تحقيقا للجاه والسلطة والقوة، واتخاذ هذا الجاه وسيلة لتحصيل ما تطلب النفس وما تريد، معتبرين الجاه هو الوسيلة المثلى لتحصيل أي شيء، ولذلك تجد كثيرا من هؤلاء لا يبالون في سبيل الوصول إلى هذه المناصب ببذل الأموال وسلوك كل الوسائل الممكنة مهما كانت وضيعة، ومهما كانت قدراتهم محدودة ومهما كانت كفاءتهم ضعيفة. وهؤلاء هم الذين حدث عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بظهورهم في الأمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم سَتَحْرِصُونَ على الإِمَارَة، وستكون نَدَامَةً يوم القيامة، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ» [رواه البخاري].
والنجاح عند بعض ثالث هو اكتساب الشهرة، من خلال الرياضة أو الفن أو السياسة أو الإعلام أو حتى الدين نفسه، معتبرين أن الشهرة كفيلة بأن تجلب لصاحبها كل ما يريد من مال وجاه وقوة.
وهناك فئة قليلة ترى النجاح في طلب العلم وتحصيل أعلى الشهادات العلمية والوصول إلى أعلى المراتب العلمية وتبوأ أرقى المناصب في المؤسسات الجامعية والبحثية.
وهناك فئات أخرى ترى النجاح في مجالات أخرى غير هذه التي ذكرناها.
النجاح الدنيوي إما واقعي أو زائف
إن هذا النجاح الدنيوي، في أي مجال كان، ومهما بلغ فيه الإنسان ما بلغ، هو في الحقيقة إما نجاح فعلي مستحق لصاحبه في هذه الدنيا، أو هو نجاح زائف لا قيمة له فهو أقرب إلى الفشل بل هو سبيل الفشل إن عاجلا أو آجلا.
فالذي يحصل المال بالطرق المشروعة ويحسن توظيفه واستثماره وصرفه في الأبواب النافعة مما يعود بالفائدة والنفع عليه وعلى أفراد المجتمع ككل، هو ناجح فعلا. بينما من يكسب المال من الطرق غير المشروعة ولا يحسن استثماره وتوظيفه بل يستعمله في الضرر والفساد ويبذره تبذيرا في أبواب الشر، هو فاشل وليس بناجح، ومصيره إلى فقدان هذا المال والوقوع بسببه في أسوأ الأعمال.
والذي يترقى في المناصب بكفاءة وجدارة واستحقاق ويحسن توظيف منصبه في كل مرة في تحقيق الصالح العام وخدمة أفراد المجتمع هو ناجح فعلا، ويستحق ما يتولاه من مناصب. أما الذي يتخذ من المنصب وسيلة للتسلط والظلم والابتزاز فهو فاشل وليس بناجح ومصيره إلى أن يُسلب منه منصبه ويصبح بلا قيمة ولا معنى في المجتمع.
والذي يكسب الشهرة من خلال ما يقدمه من خدمات للمجتمع وما يبذله من جهود لخدمة الصالح العام وما يسعى إليه من خير ونفع، هو ناجح فعلا ومستحق لما يحصل عليه من شهرة. أما الذي يصل إلى الشهرة من الطرق العفنة وبالوسائل القذرة فهو فاشل حتى وإن تصور نفسه ناجحا، وحتى وإن اعتبره الناس جميعا ناجحا، لأن مآل هذه الشهرة إلى الزوال لارتباطها بالبهارج الكاذبة التي سرعان ما تذهب وتزول.
والذي يترقى في مختلف مراتب العلم والمعرفة ويحصل أعلى الشهادات بالجد والعمل والاجتهاد والبحث والتنقيب والتحصيل العلمي الرصين والمتين ويوظف ما تحصل عليه من علم في صالح الأمة والمجتمع ونفع الإنسانية بوجه عام، هو إنسان ناجح فعلا ويستحق ما يناله من تقدير واحترام من الناس لعلمه ومرتبته. أما الذي يبني مساره العلمي على الغش والتلاعب، وينتقل من مرحلة علمية إلى التي تليها بمختلف أساليب المكر والاحتيال، ويترقى في مراتب البحث العلمي بسرقة جهود الآخرين وبحوثهم ومؤلفاتهم فهو فاشل لأن مصيره إلى أن ينكشف أمره ويفتضح سره ويظهر جهله. ومثله من يستخدم علمه في ابتزاز الناس والإضرار بهم وتحقيق مصالحه الشخصية إرضاء لأنانيته ونفسه الأمارة بالسوء، فهذا عالم فاشل ومآله إلى الفشل لا محالة لأن العلم بلا أخلاق مآله الخسران والإخفاق.
هذا معنى كل من النجاح والفشل في هذه الحياة الدنيا، فهل هو نفسه النجاح في بعده الأخروي؟ وهل كل ناجح في الدنيا هو بالضرورة ناجح في الآخر؟
النجاح الدنيوي لا يستلزم النجاح الأخروي
إن هذا النجاح الدنيوي، حتى وإن كان فعليا وواقعيا وتحقق بطرق سليمة، إلا أنه لا يعني أن صاحبه ناجح كذلك في الآخرة، فالنجاح الدنيوي ينتهي بانتهاء الوجود الدنيوي لصاحبه، وهو نجاح يستوي فيه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.
فالمال يحصله المؤمن والكافر، والمنصب يتبوؤه التقي والفاجر، والشهرة ينالها الصالح والطالح، والعلم الدنيوي والشهادات الدنيوية ينالهما كل من يسعى لهما مؤمنا أو كافرا، برا أو فاجرا، صالحا أو طالحا.
ثم إن هذا النجاح الدنيوي هو مما يندرج ضمن الرزق المقسوم للإنسان في حياته الدنيوية، فهو حتى وإن كان من كسب الإنسان إلا أن الفضل الأول والأخير فيه لله عز وجل، فهو الذي هدى الإنسان إليه ويسر له أسبابه وأذن له بتحصيله، ابتلاء له به هل يشكر أم يكفر؟ قال سبحانه تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32].
النجاح الدنيوي إذن نجاح ظرفي مؤقت بوجود الإنسان في هذه الدنيا، إذ بوفاته ينتهي كل شيء ولا يبقى منه شيء.
فما هو النجاح الحقيقي الدائم الذي يجب على الإنسان أن يحرص عليه ويسعى في تحصيله؟
هذا النجاح هو النجاح الأخروي الذي تُوضع أسسه وتًبنى أركانه في هذه الدنيا ويُنال جزاؤه في الآخرة.
وما ذلك إلا لأن هذه الحياة الدنيوية ليست حياة حقيقية دائمة، إنها حياة ظرفية سريعة الانقضاء وهي مجرد مزرعة لما بعدها، أما الحياة الحقيقية فهي الدائمة المستمرة التي لا نهاية لها وتلك هي الحياة الأخروية، قال الله تعالى: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64].
*كلية العلوم الإسلامية – جامعة باتنة1