السعداء في الآخـــــــرة

د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عَنِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )(1).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأذان، باب مَنْ جلسَ في المسجدِ ينتظرُ الصلاة وفضل المساجد.
يذكر الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – في الحديث السابق السُّعداء الأبرار الذين تشملهم عناية الله سبحانه وتعالى ورحمته تحت ظِلِّ عرشه الكريم، ويبيِّن فضل الله سبحانه وتعالى على كلّ من اتصف بواحدة من هذه الصفات الحميدة التي يُحبها الله سبحانه وتعالى، ويدعونا رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- إلى التَّحلّي بها؛ لعظيم أثرها في الدنيا وحُسْن جزائها في الآخرة، وهل هناك أفضل من ظِلِّ عرش الله سبحانه وتعالى يوم لا ظِلَّ إلا ظلّه مع أنبيائه وأصفيائه، وقد جمعهم الشاعر في قوله:
وقال النبيّ المصطفى إنَّ سبعـةً يُظِلّهمُ اللهُ الكريـــمُ بظلـِّــــه
مُحِبٌ عفيـفٌ ناشئٌ مُتَصَــدّقٌ وباكٍ مُصَلٍّ والإمامُ بعَدْلِه
هؤلاء هم السعداء
* الإِمَامُ العَادِلُ: من المعلوم أنّ ديننا الإسلاميّ يدعو إلى التزام العدل في شَتّى الأقوال والأفعال والسلوك، فالعدل هو وظيفة الرُّسل الكرام –عليهم الصلاة والسلام-، كما أنّه غاية الرسالات السماوية، فبالعدل قامت السماوات والأرض، لذلك فقد أمرنا الله تعالى بإقامة العدل كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(2)، وقوله أيضا:{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بالْعَدْلِ}(3).
* وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ: أي أنّ هذا الشاب قدْ نشأ وترعرع منذ نعومة أظفاره على طاعة الله وعبادته، فالتزم بالطاعات واجتنب المُوبقات؛ لذلك فإنَّ ديننا الإسلامي الحنيف يحثُّ الشباب على طاعة الله ورسوله في جميع الأوقات؛ لأنها سبيل النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن شبَّ على شيء شَابَ عليه، فالشباب هم عماد الحاضر وأمل المستقبل، وهم أصحاب الهِمَم العالية والنفوس الطاهرة الزكيّة؛ لذلك أوصى بهم الإسلام خيراً.
* وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ: يُبَيِّن – عليه الصلاة والسلام- مكانة الرجل المسلم الذي عمر الإيمان قلبه، فالتزم بالطاعات وفي مقدمتها الصلاة التي مَنْ أقامها فقد أقام الدين وَمَنْ هدمها فقد هدم الدين، فحافظ على الجمعة والجماعة وأدّى الصلاة في وقتها في المساجد.
* وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ: يُبَيِّن – صلّى الله عليه وسلّم – في الحديث أنَّ الرجلين قد تحابَّا في الله، وهذا الحبّ يجب أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى وحده وليس لأيِّ هدف آخر، (وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله)، وفي ذلك دعوة للمسلمين بضرورة التحابب في الله.
* وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ: يُبَيِّن – صلّى الله عليه وسلّم – فضل طهارة المسلم وعفّته وعظيم أجرها، حيث يحرص على عدم الانزلاق في طُرق الغواية والضلال مهما كانت المُغريات؛ لأنّ الخوف من الله خصلة من خصال الإيمان، فهو يعصم المسلم من الوقوع في حبائل الشيطان.
* وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ: يُشدِّد – عليه الصلاة والسلام- على ضرورة الإخلاص في الأعمال، وعدم إبطال الصدقات بالمَنّ والأذى، فهذا المُتصدّق يقصد إخفاءها عن أعين الناس ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، كي يكسب الأجر والثواب من الله عزَّ وجلَّ ، فاستحقّ هذا الفوز العظيم.
* وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ: يختتم – صلّى الله عليه وسلّم – الحديث الشريف بذكر هذا الرجل الذي ذكر الله عزّ وجلّ، أي بقلبه من التَّذّكر أو بلسانه من الذّكر، و( خالياً) أي من الخلوّ لأنّه يكون حينئذ أبعد عن الرياء، والمراد خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، وذلك ليكون أقرب إلى الإخلاص والخشوع، فمن ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله لا يُعَذّب يوم القيامة.
هيـَّـا إلى الجنة
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: («مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ تَبعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا . قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ»)(4) .
في الحديث السابق يُرشدنا – صلّى الله عليه وسلّم – إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، لذلك يجب علينا الالتزام بأداء العبادات والنوافل، واتّباع الجنائز، وإطعام الأيتام والمساكين والفقراء، وعيادة المرضى، فالمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى.
صحابــة مُبَشّـــرون بالجنـّــة
إِنّ أفضل الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- على الإطلاق هم الخلفاء الراشدون، ثم باقي العشرة المُبشّرين بالجنة؛ لما رُوي عن سعيد بن زيد – رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ)(5)، والمُبَشَّرون بالجنة من الصحابة كثيرون، ولكنّ أبرزهم هؤلاء العشرة، ثم يأتي بعدهم في الفضل أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرّضوان، ثم يأتي بعد ذلك باقي أصحاب النبي – صلّى الله عليه وسلّم -، وقد ذكر رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – بعض المناقب والفضائل لعددٍ من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين -، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ, وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (6).
فَمَنْ أراد السعادة فليلتمسها في المسجد، في القرآن الكريم، في السُّنَّة، في الذِّكر، في الاستقامة، في اتّباع محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، فيا طُلاَّب السعادة، ويا عُشّاقها، ويا أيُّها الباحثون عن الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد – صلّى الله عليه وسلّم –؛ لأنّ ديننا الإسلامي الحنيف يُوجب علينا حبّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – والسير على هديه واتّباع سُنَّته.
السعادة الحقيقية
من المعلوم أنّ السعادة ليست في جاهٍ رفيعٍ بين الناس، ولا كثرة أولاد يزهو الإنسان بهم على الآخرين، ولا صحّة يتجبّر بها على عباد الله، كما قال الشاعر:
يا خادمَ الجسمِ كم تشقـى بِخدمَتِهِ أتطلب الربحَ فيمـا فيـه خُسْرانُ؟
أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائِلَها فأنـتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـانُ
كما أنّ السعادة لا تكون بالمال الوفير ولا بالمنصب الرفيع، كما قال الشاع:
ولســــتُ أرى السعــــادةَ جمعَ مــالٍ ولكـــــنَّ التقـــــيَّ هــــو السّعيــــدُ
وتقـــوى اللهِ خيــــرُ المــــالِ ذخْــــراً وعنـــدَ اللهِ للأتقـــــى مزيـــــــــــــدُ
فالسعادة لا تكون إلا بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، ولزوم المساجد، والإيمان بالقدر خيره وَشَرِّه، والرضى بما قسم الله عزَّ وجلَّ، والاستقامة في القول والعمل، والتَّحلّي بالأخلاق الفاضلة، والإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ، واتّباع هدي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(7).
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- أخرجه البخاري
2- سورة النحل الآية (90)
3- سورة النساء الآية(58)
4- أخرجه مسلم
5- أخرجه الترمذي
6- أخرجه الترمذي 7- سورة طه الآية(123-126)
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com