معركة المفاهيم
أ.د. عبد الملك بومنجل/
تُخاضُ الحروبُ على الورق قبل أن تخاضَ في الميادين. وحين نتحدث عن الورق فنحن نتحدث عن الأذهان وما يجري فيها من صراع الأفكار وعراك المفاهيم.
إذا انتصر عليك الخصم في معركة المفاهيم فقد حرِيَ أن ينتصر عليك في جميع المعارك. لأنه يكون قد سلبَكَ القدرة على المبادرة، وحمَلَكَ على أن تختارَ طريقَ التبعية لا الحرية، واستدرجَك إلى ميدانه، حيثُ المناخُ مناخُه والجمهورُ جمهوره. وإذا شئنا أن ننزل من التجريد إلى التمثيل وجدنا مفهوم «التنوير» قائما يصرخ: انظروا ماذا فعل المفكرون والمثقفون بي، إذ حوّلوني من النقيض إلى النقيض!
مصطلح التنوير من أكثر المصطلحات دورانا على ألسنة المفكرين والباحثين في العالم العربي؛ فأي شيءٍ هو التنوير الذي به يتعلقون وإليه يحجون، وعلى ميزانه يُعرَضُ الأولون والآخرون ، وبناءً على حدوده يُميَّزُ بين كاتب مستنير وكاتب متخلف أو ظلامي؟ لا بد من العودة بالمصطلح إلى جذره الأول، وهو النور. وسيندهش الحصيف حقا حين يجد أن النور الذي ينسب إليه التنويريون تنويرَهم هو النور الذي يخاصم النور!
أي تناقضٍ هذا؟ يقول القارئ الحصيف. وهل حصل فعلا أن تبنى الكتّاب التنويريون العرب مفهوم التنوير بما يضعه في الاتجاه المعاكس لمصدر النور؟ يسأل القارئ الكريم. وأنا أجيبه خطوةً خطوة وأقول: نعم. لقد حصل ذلك وما يزال يحصل إلى الآن، حتى إنك لا تكاد تجد مصطلح التنوير رائجا إلا لدى من ديدنُهُ الإعراضُ عن النور.
النورُ حقيقةً ومجازا هو اسم الله، أولاً. وهو الشيء الذي يُهيِّءُ للأبصار أن ترى الأشياء على حقيقتها، ثانيا. وهو –مجازا – العلمُ الذي يتيحُ للبصائر أن تهتدي إلى الصواب والحكمة والصلاح، ثالثا. وهو العقلُ الذي يمكّن الإنسانَ من معرفة المجهول وتحصيل العلوم والاهتداء إلى الحق، رابعا. وهذه معانٍ متضافرة متلاحمة لا يخذل بعضها بعضا ولا ينقضُهُ ولا يدحضُهُ.
فأي صلة للتنوير الذي يتداوله التنويريون العرب بهذه المعاني الأصلية، لاسيما الأول، وهو الأساس؟
معلومٌ أن مصطلح التنوير ورد علينا من الغرب ضمن عدد وافر من المصطلحات المفاهيم ذات الصلة بالسيرورة الحضارية التي عرفها الغرب منذ بدء صراعه مع ظلم الكنيسة وظلامها وقهرها للعلم والعلماء والعقل والاجتهاد، باسم الدين المسيحي. فقد نقله ذلك الصراع إلى محاولة تحرير العقل من قهر الكنيسة، والأخذ بناصية الإنسان في طريق العلم الكاشف لأسرار الطبيعة. وكان العنوان الأكبر لتلك الحركة هو سيادة العقل في مواجهة سيادة الدين؛ فسمي ذلك العصر بعصر العقلانية ثم بعصر التنوير، وكان العقل هنا مرادف النور، وحُقَّ لهم أن يرمزوا إلى العقل بالنور، فالعقل نور، ولكن أي عقل؟ وهو يهدي إلى العلم والعلم نورٌ، ولكن أي علم؟ والدين الذي حررهم العقل منه كان خصيما للعقل والعلم وناصرا للجهل والظلم، ولكن أي دين؟ لقد كانت صورة التنوير عند الغربيين على النحو الآتي: دين كنسي هو رمز للجهل والقهر، تصدى له عقل علمي حرر الإنسان من القيد والخرافة والوصاية، فنقله مما يشبه الظلام إلى ما يشبه النور. ولمس المجتمع الغربي أثر ذلك التحرر من سلطة الدين طيبا غيّر من نمط حياته من التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى العلم، ومن القيد والقهر إلى الحرية والكرامة؛ فكيف لا يطلق على هذا الوضع الحضاري والمعرفي الجديد مصطلح التنوير؟ وكيف لا يعزو فضائل حضارته العلمية والمادية إلى التنوير؟ وكيف لا يتصور التنوير نقيضا لما ثار عليه من القهر والجهل، نقيضا للدين؟
وتلك هي المشكلة حين ننتقل إلى التلقي العربي لمفهوم التنوير. فقد نقلوا المفهوم بقضّه وقضيضه، فتصوّروا علاقته بالدين علاقةَ نقيضٍ بنقيضِه، وكانت تلك علامة جهلٍ يأباه التنوير، وعلامة تبعية يرفضها ما يقود إليه التنوير من التحرير.. وللحديث بقية.