التَحْرِيشُ الطائفي ومخاطر الانشراخ المجتمعي
د. حرز الله محمد لخضر*/
إنّ التفاعلات الاجتماعية والحراك السياسي الذي طبع المشهد في العالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة، أفرز العديد من التحولات في النسق الاجتماعي والقيمي للمجتمعات العربية والإسلامية، وأحدث مخاضا الفكريا ونقاشا محتدما حول العديد من القضايا السياسية والفكرية والدينية التي ترتكز عليها المنظومة القيمية العربية والإسلامية وتعتبر من ثوابتها العصماء ومن المكونات الجوهرية لبنية المجتمع: كالدين واللغة والتاريخ والعرق وقضايا التنمية والسياسة والحكم وتحديات المستقبل والمذاهب والأيديولوجيا…الخ، ونتج عن ذلك مساجلات ومطارحات استدعت النقاش التليد المتجدد الذي شغل الساحة العربية الإسلامية منذ عقود حول مكونات الهوية وتحدياتها بين الوافد والرافد، الأصالة والحداثة، الثابت والمتغير، العالمي والمحلي.
إلاّ أنّ هذا النقاش الحاد وفي غمرة التحولات الجذرية والنزعة الثورية وتضارب مصالح الأطراف الدولية؛ أخذ صورا من الاستقطاب والتجاذب القَبَلِي المتطرف، والتحريش الطائفي، أدى في أَحَايِينَ عدة إلى التدابر والتقاتل بين أفراد المجتمع الواحد، بل أضحى يهدد كيان الدول وأمنها المجتمعي والفكري بكافة أبعاده. فما هو التحريش الطائفي؟ وما هي تداعياته ومصادره الجلية والخفية؟
ورد في معجم المعاني الجامع:حَرّشَ يُحَرِّشُ تَحْرِيشًا فهو مُحرِّشٌ، وحَرَّشَ بين المتقاتلين: أفسد وأغرى بعضهم ببعض، هَيَّجَهم على بعض.حَرَّشَ الكلابَ: هيجها. والتَّحْرِيشُ بين الناس: إغراء بعضهم ببعض والإفساد بينهم، وحَرَّشَ بين القوم: أفسد بينهم.1 وورد في القاموس المحيط للفيروزآبادي: «والتحريش: الإغراء بين القوم أو الكلاب.»2
وفي الحديث الشريف الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم». رواه مسلم. أي أن الشيطان سَاعٍ بين المسلمين بالفتنة وإثارة النعرات والبغضاء بينهم.
وكتعريف إجرائي لمصطلح التحريش الطائفي نقول: «هو التغرير بين الناس وتهييج مشاعرهم وإيغار صدور بعضهم على بعض، بتوظيف المكوِّن الطائفي ممثلا في العرق أو الإيديولوجيا أو الدين أو اللغة، أو أي إثنية أخرى، بقصد اسْتِبْعَاثِ الأحقاد الكامنة، من خلال التأويل المشبوه للخلافيات، أو زرع بذور التفاضل العرقي أو التعصب المذهبي بما يفضي إلى التَّضَاد والتقاتل.»
فالتحريش الطائفي هو التحريض القائم على الاستغلال السلبي لأحد أبعاد الهوية ومكوناتها أو للنعرات الطائفية، بهدف الإنكفاء على الذات وإقصاء الآخر، مما يفضي إلى التطرف وهدم أسس التعايش وخلق ولاءات واصطفافات ضيقة على حساب المشترك الرحب، وإفساد ذات البَيْنِ التي عبر عنها نبي الإسلام بأنها «الحالقة».
وفي هذا المعنى تأتي قصة الأوس والخزرج عندما سعى ذلك الفتى اليهودي للوقيعة بينهما بعدما غاضه التآخي الذي حصل بينهما بعد الإسلام، فقد روى الطبري بسنده وغيره عن زيد بن أسلم قال: مر شَاسُ بنُ قيسٍ -وكان شيخا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضِّغْنِ على المسلمين والحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةٍ -يعني: الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع مَلَؤُهُم بها من قرار، فأمر فتى شاب من يهود فقال له: اعْمَدْ إليهم فاجلس معهم فذَكِّرْهُمْ يوم بُعَاثٍ وما كان قبله(يوم وقعت فيه معركة بين الأوس والخزرج قتل فيها الكثير منهما)، وأنشدهم بعض ما كانوا تَقَاوَلُوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحَيَّيْنِ على الركب فتَقَاوَلا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جَذْعَةً، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الحَرَّةَ. فخرجوا إليها وتَحَاوَزَ الناسُ على دعواهم التي كانت في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله… أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟! فعرف القوم أنها نُزْغَةٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.فأنزل الله تعالى في ذلك: « قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ* قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.»)آل عمران:98-99( وأنزل في الأوس والخزرج:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ* وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.»)آل عمران:100-101 )
وهناك العديد من الإثْنِيَّات التي اسْتُغِلّتْ سلبيا للتحريش الطائفي في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية من خلال عمليات التوجيه والتحريض والشحن والاستقطاب وإيغار الصدور، حتى إنك لتجد في المدينة أو القرية الواحدة استقطابا حادّا بين طوائفها وتياراتها المتباينة،وهذا المَنْزَعُ الطائفي المقيت المنغلق في أطر فكرية ضيقة وجامدة،كوّن مادة دسمة لمنظري الفوضى الخلاقة، لاستغلال هذا التنوع الثقافي واللغوي والإختلاف المذهبي لتحويله إلى مصدر للتقاتل بدل التكامل، وسببا للنَّكَالِ عوض الكمال، ومِعْولا للتمزيق والتفريق بدل التعايش والتوفيق، في صورة تعكس الغياب الواضح لثقافة التعايش السلمي والحوار الهادئ الرصين بين مختلف الأطياف، واحترام أدب الاختلاف،وفقه التعامل عند الخلاف، عملا بقوله سبحانه»وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»-سورة الحجرات الآية 13-
وقد رصد المفكر الجزائري مالك بن نبي –رحمه الله- منذ أمد بعيد ظاهرة خطيرة تُمَثّل أبرز عوامل الإنشراخ المجتمعي المغفول عنها في مجتمعاتنا إلى يومنا هذا، سماها «المَرَاقِبُ الفكرية للاستعمار» حيث يؤكد من خلالها على دور المستعمِر في ملاحظة وتوجيه حركة الأفكار في العالم الإسلامي والعمل على رصدها وتحليلها وتوجيهها إلى الوجهة التي يريدها حتى تفقد فاعليتها وحركيتها، وهذا ما يمكن أن يفسر جزءا مهما من الاستراتيجية الاستعمارية إبان احتلال البلاد الإسلامية بتركيزه على ترويج الخرافة وتقديسها ومحاربة العلماء واستبدالهم بالمستَلَبِين فكريا وضعاف العقول وتمكينهم في المجتمع. ويحلل مالك بن نبي هذه الاستراتيجية بدقة كبيرة فيقول في كتابه (فكرة كمنويلث إسلامي):»فالاستعمار ليس من هوّاة الرقائق الفكرية أو المولعين بها، ولا هو من زارعي الأفكار أو مكتسبيها، فله أفكاره الخاصة به، وهو يحتفظ بها لنفسه بغَيْرة، مفضلا بيع (أشيائه) لنا، ولكنة لكي يحافظ على احتكاره للأفكار قد مَكّنَ على وجه الدقة في العالم لجهاز كامل من المَرَاقِبِ التي تستكشف الأفكار، وتتتبع تحركاتها باهتمام بالغ، واهتمامه بها اهتمامٌ عملي محض، لأن الأمر ينحصر بالنسبة إليه في حماية ذلك الإحتكار لنفسه، وهذا يؤول عمليا إلى صياغة فنية واستراتيجية خاصة، ليس لدى العالم الإسلامي أي فكرة عنها.والاستعمار لا يقنع بمجرد الإستعلام عن حركة الأفكار، فهذا شأن الفيلسوف إلاّ أنّ للاستعمار فلسفته الخاصة التي تتمثل في التخلص من الأفكار التي تضايقه، وفي الانحراف بها عن مراميها، بتوجيهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه. كيف يتخلص من فكرة معينة؟ كيف ينحرف بها ويوجهها خارج مدارها؟ هاهنا بالذات تتجلى عبقرية الاستعمار الجهنمية.»3
إن هذه الاستراتيجية التي تفطن لها بن نبي منذ عقود، قد تأسست لأجل تطويرها في العالم الغربي غرفُ التفكير الاستراتيجي ومراكز الأبحاث والإستشراف ومخابرُ فكرية متخصصة في جغرافيا الإثنيات اللغوية والعرقية للدول، واستراتيجيات تنمية وإدارة الصراع الفكري بها، ولا أدل على هذه الحقيقة في تاريخنا العربي الحديث من قصة الجاسوس البريطاني توماس إدوارد لورانس المشهور ب»لورانس العرب» الذي نحج في اختراق القبائل العربية وتأليبها على الدولة العثمانية وتأجيج الفتن بينهم وجَعْلِهِم في حالة وهن وصدام دائم مما أفضى إلى تفككهم واحتلالهم لاحقا.4
وهذا ما يؤكد لنا إلى اليوم حالة الإضطراب وغياب الحصانة الفكرية والتعصب الأيديولوجي المأفون بين مختلف الطوائف والإثنيات الموجودة بالعالم الإسلامي، ناهيك عن مظاهر الإستلاب والإغتراب والغزو الثقافي وضعف آلة الإجتهاد والإبداع في مجتمعاتنا، وهو مؤشر على ضعف قاعدتنا المفاهيمية والفكرية وانعدام فعاليتها بسبب طغيان الأنا المُسْتَعْلِيَةُ على الكُّلِّ المتكامل بنيويا ووظيفيا.
فما يقع عندنا من تجاذب واستقطاب طائفي وفكري يؤدي في الغالب إلى الصراع وتفكك الروابط الإجتماعية،لأنه نتيجة حتمية لغياب قيم التعايش السلمي ومنطق المجادلة بالحسنى والمطارحات العلمية الراقية والمساجلات الفكرية الهادفة، واحترام الإختلاف التَّنَوُّعِي والنقد البناء والاعتراف بالخطأ بعيدا عن ضروب الطعن والسب والتنقّص والمكابرة، كمِثْلِ ما كان عليه أسلافنا الأفاضل، فعمر -رضي الله عنه – كان يقول: «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل» والإمام الشافعي رحمه الله قال: «ما جادلت أحدا إلا وأحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه. «وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: «كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلا صاحبَ هذا القبر؟ويشير إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم».
وقد أوصى رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام في أبلغ خطبه العصماء، خطبةِ حجة الوداع قائلا: «تَعْلَمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، وسَتَلْقَوْنَ ربكم فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض…أيها الناس:إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم اشهد».
مراجع المقال:
1- من موقع معجم المعاني الجامع مادة: حَرَشَ على ال رابط:
2- https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/يحرش/. تاريخ الزيارة: 22-05-2019 على الساعة: 19:09.
3- مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط. بيروت: دار الفكر، 2005، ص 530.
4- مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي.دمشق: دار الفكر، 2000، ص 54.
5- ترجمة حول لورانس العرب من موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/توماس_إدوارد_لورنس. تاريخ الزيارة: 22-05-2019 على الساعة: 19:09.
*باحث أكاديمي -جامعة بسكرة-