في ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك
د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال:»لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»(1).
هذا حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكّة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكّة والمدينة.
في مِثْلِ هذه الأيام قبل اثنين وخمسين عامًا تمّ إحراق المسجد الأقصى المبارك، حيث امتدت الأيدي المُجرمة إلى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد تعرّض المسجد الأقصى المبارك للحريق المشؤوم في 21/8/1969م وأصبح منبر البطل صلاح الدين أثراً بعد عين، وأتت النيران على مساحات شاسعة من المسجد القبلي، وما زالت الحرائق تشتعل في المسجد الأقصى المبارك وتأخذ أشكالاً متعدّدة، منها: التصريحات المتكررة لقادة الاحتلال والمُتمثلة في محاولتهم فرض سيطرتهم على المسجد الأقصى المبارك وتقسيمه، والسماح للمستوطنين بأداء طقوسهم فيه؛ تمهيداً لإقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه – لا سمح الله-، وكذلك الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، والحفريّات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق العميقة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بنيانه وزعزعة أركانه، فالمسجد الأقصى المبارك ما زال في دائرة الاستهداف من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
المسجد الأقصى …
مسجد إسلامي إلى يوم القيامة
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكّة المكرّمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى من سورة الإسراء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2)، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يُفَرِّط في أحدهما، فإنه إذا فَرَّطَ في أحدهما أوشك أن يُفَرِّط في الآخر، فرحاب القدس الشريف مثل رحاب مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة.
والأقصى: اسمٌ للمسجد كلّه الذي تبلغ مساحته (144) دونمًا بساحاته وأروقته وقبابه ومصاطبه وأسواره، وكلّ جزء فيه سواء كان فوق الأرض أم تحتها هو حقٌ خالصٌ للمسلمين وحدهم.
إِنَّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجدٍ وُضِعَ لعبادة الله في الأرض، فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك ارتباط عَقَدِيّ وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً، ولا موسميًّا مؤقتاً، فهو مسرى نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – حيث صَلَّى فيه رسولنا الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – إماماً بإخوانه الأنبياء والمرسلين –عليهم الصلاة والسلام- في ليلة الإسراء والمعراج، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدّ إليها الرِّحَال، كما أَنَّ للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، وتعميقاً لقيمته في قلوبهم ضاعف الله سبحانه وتعالى فيه أجر الصلاة.
وفي جنبات المسجد الأقصى المبارك رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته النَّدي، وفي ظلّ هذا البيت دُفِن العديد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أول قاضٍ للإسلام في بيت المقدس، وشدَّاد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين-، وما من شبرٍ من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مجداً من أمجاد المسلمين.
ومن الجدير بالذكر أنَّ العرب والمسلمين قد أولوا المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة عناية كبيرة عبر التاريخ، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى القدس في رحلة الإسراء والمعراج، كما أنّ سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي فُتحت في عهده مصر ودمشق وبغداد، لم يذهب لاستلام مفاتيح أية عاصمة، وإنما جاء إلى القدس في إشارةٍ منه
إلى مكانة هذه المدينة في عقيدة الأمة، كما جاءها مئات الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين-.
فبيت المقدس سيبقى إِنْ شاء الله حِصْناً للإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة على الرَّغم من المِحَن التي تعصف بالأمة، كما أنَّ الطائفة التي لا تزال على الحقِّ هي في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ومن المعلوم أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – قد رَغَّبَ في السُّكْنى والمرابطة في هذه البلاد المباركة الطيبة، فبيت المقدس ثغرٌ من ثغور الإسلام، وللإقامة والرباط فيه أجرٌ كبير، ولعدم مغادرته والهجرة منه ثواب عظيم، وهذه كلّها من ثمار بركة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
أدركوا القدس والأقصى قبل فوات الأوان
إِنَّ ما يجري في مدينة القدس اليوم بحاجة إلى خُطوات فعلية، تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احْتُلَّت عبر التاريخ مرات عديدة، ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتلّ إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللِّثام عَمَّا يجري من أعمال بشعة بحقّها وتراثها وأهلها، والتي تُشَكِّل إهانة للإنسانية ووصمة عارٍ في جبينها.
إِنَّ مسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذَّود عنه، إنما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في مساندة هذا الشعب والوقوف بجانبه، ودعم صمود المقدسيين؛ للمحافظة على أرضهم ومقدساتهم، خصوصاً في هذه الأيام التي يتعرّض فيها المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة لمؤامرات خبيثة.
إننا نطالب أبناء الأمتين العربية والإسلامية ألاّ ينسوا مسرى نبيهم محمد – صلّى الله عليه وسلّم- ومدينة القدس، كما ندعوهم لضرورة العمل على المحافظة عليها وحماية مقدّساتها لأنها جزء من عقيدتهم، هذه المدينة التي تتعرّض يوميًّا لمجزرة إسرائيلية تستهدف الإنسان والتاريخ والحضارة، حيث إِنَّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستخدم كلّ أدواتها وأساليبها لتزوير الواقع وتغيير الحقائق المُتمثلة في أنّ مدينة القدس مدينة محتلة ، وإنّ ما يحدث في هذه الأيام من جرائم في حيّ الشيخ جراح وحيّ البستان وفي سلوان والعيساوية وغيرها ليس عنّا ببعيد !.
فالقدس تنتظر بشَغَفٍ المواقف العربية والإسلامية التي تحميها من الضّياع والاندثار، كما أنّ المسجد الأقصى المبارك يُخَاطب الأمة قائلاً: أدركوني قبل فوات الأوان، ومن هنا فلا بُدَّ لكل عربيّ ومسلم في العالم أَنْ يَعيَ تماماً واجبه والدّور المنوط به تجاه القضيّة المركزيّة للأمة -المسجد الأقصى والقدس وفلسطين-، فمدينة القدس لا يُمكن أن تُنسى أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخَطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي الإسلامي، ومحو معالمها التاريخية والحضارية، وتحويلها إلى مدينة يهودية، فالقدس تُناديكم اليوم؛ للتأكيد على أنّها عاصمة دولة فلسطين، ولتطبيق العدالة في أعدل قضايا الدنيا، قضية القدس وفلسطين وشعب فلسطين، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
تحية إكبار وإجلال لأهلنا المقدسيين
إِنَّنا نوجّه تحيّة إكبار وإجلال لأهلنا المقدسيّين ولعلمائنا الأجلاّء ولسدنة الأقصى وحرّاسه وللمرابطين داخل المسجد الأقصى المبارك، على صمودهم وتصدّيهم الدائم لقطعان المستوطنين ودفاعهم المستمرّ عن المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة، حيث إنهم يُشَكِّلون خطَّ الدفاع الأول عن الأقصى والقدس والمقدّسات، ويتصدّون للمُقتحمين بشَتَّى الوسائل المُمْكنة؛ دفاعاً عن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين.
إِنَّ هذه المواقف المُشرفة للمقدسيّين هي صفحة مُشرقة تُضاف إلى الصفحات المُشرقة لنضالات شعبنا عبر التاريخ، فقد علّمت المحتل درساً بأنَّ إجراءاته الظالمة لن تمرّ على شعبنا الفلسطيني ولن يُوافق عليها إطلاقا، فالمسجد الأقصى المبارك بساحاته وأروقته وكلّ جزء فيه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها هو حقٌّ خالص للمسلمين وحدهم، وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه، وأنّ مدينة القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أَنْ يحفظ الأقصى والقدس والمقدّسات وسائر بلاد المسلمين من كلّ سوء
وصلّى الله على سيّدنا محمد T وعلى آله وصحبه أجمعين .
الهوامش :
1- أخرجه البخاري
2- سورة الإسراء الآية رقم (1)
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com