يا أخيار الجزائر.. اتحدوا ضد الفتنة اللعينة
د. أرزقي فــــراد/
لا يختلف اثنان عاقلان أن قتل الشاب جمال بن اسماعيل بتهمة باطلة في خضم محنة الحرائق، جريمة نكراء يعجز اللسان عن وصف بشاعتها، تدلّ على مدى غياب التمدن لدى هؤلاء الفاعلين المجرمين. وأمام هذه الجريمة المتوحشة التي لا تقبل التبرير في جميع الحالات، ليس لعين لم يفض دمعها عذر، وليس لقلم لم يستنكر مبرّر.
ومن واجب الدولة وعقلاء مدينة لربعا ناث ايراثن التي وقعت فيها الجريمة، أن يوحّدوا جهودهم من أجل التعرف على هوية الفاعلين، ومن ثم إحالتهم إلى العدالة لتأخذ مجراها بكل حزم وعزم وصرامة، لأن الحياة تكمن في القصاص. هذا ولا أخفيكم أن هذه الجريمة الموصوفة بالتوحش بامتياز، قد كانت أشدّ وقعا عليّ من الصاعقة، حتى تمنّيت لو كنت تحت التراب لا فوق التراب أثناء حدوثها!
أتوقع من أعيان الأربعاء ناث ايراثن وعقلائها الذين صدموا بهذه الجريمة المتوحشة قبل غيرهم باعتبارها تشويها لسمعة المنطقة كلها، أن يشكلوا وفدا يتجه إلى مدينة مليانة لتقديم الاعتذار والتعازي لأهل الضحية، علما أن هناك علاقات طيبة تربط بين المدينتين منذ عقود طويلة. وأنا على يقين أن أخيار القبائل وأخيار مليانة وأخيار باقي الجزائر قاطبة، لن يدّخروا أيّ جهد من أجل توفير شروط النجاح لهذا “الصلح” بين إخوان عكّرت جريمة معزولة علاقتهم ظرفيا، خاصة وأن الجميع يدرك أن “والصّلح خير” كما ورد في القرآن.
لقد حاول الماكرون التشويش على هبّة التضامن الوطني، التي أكّدت للأقارب والأباعد على حدّ سواء، أن الجزائر واحدة موحّدة لا انفصام لها، حاولوا إجهاض التعاون الوطني بارتكاب هذه الجريمة النكراء. لكن مشيئة الله قرّرت غير ذلك، فزادت لحمة تضامن الجزائريين مع ساكنة تيزي وزو وبجاية المنكوبين الذين أصيبوا في الأرواح والممتلكات. أيها القتلة: أنتم موتى، وجمال بن اسماعيل حيّ في قلوبنا برمزيته الرائدة المجسّدة لقيمة التضامن والتضحية في سبيل الوطن، فشرف الرِّفعة لا يُكسب إلاّ بالتضحيات الجسام كما قال الشاعر المتنبي :« لولا المشقّة ساد الناس كلهم/ الجود يفقر والإقدام قتال».
قد يتساءل البعض عن دواعي استهداف “مخطط الحرائق”، لقرى بلدية آث يراثن بالدرجة الأولى أين وقعت جريمة قتل وحرق الشاب جمال بن اسماعيل؟ الجواب بعجالة هو أن هذه المنطقة تشكل قلبا نابضا لمنطقة القبائل منذ زمن طويل، فقد أشار ابن خلدون إلى عرش آث يراثن (قلعة الأسود) على أنه عصيّ على الغزاة. وذكر الكاتب الفرنسي جوزيف نيل روبان، أن الدّاي حسين قد راسل أهل المنطقة عقب اكتشافه لمخطط فرنسا الاستعماري، وطلب منهم المساعدة والدعم، فكان له ذلك بأن أرسلت الزوايا التعليمية(معمرات) حوالي 25 ألف متطوع إلى معركة اسطاوالي في جوان 1830م. هذا وقد قاوم سكان آث يراثن الجيوش الفرنسية الغازية مقاومة بطولية تحت قيادة زاوية الشيخ الصديق بن أعراب، ولم تسقط هذه المنطقة إلاّ سنة 1857م أي بعد سقوط العاصمة بثلاثة عقود، ثم عادوا إلى المقاومة سنة 1871 تحت قيادة الشيخ مُحند وَعْلِي اُسَحنون مقدّم الطريقة الرحمانية. كما ساهم سكان آث يراثن بقوّة في بناء مسجد باريس، وفي تأسيس نجم شمال افريقية سنة 1926م، وفي احتضان الحركة الوطنية وثورة نوفمبر التحريرية. هذا ومن أبرز القادة الذين أنجبتهم منطقة آث يراثن عبر مسيرة النضال الطويلة؛ بلقاسم راجف، علي العيماش، عبان رمضان، محمدي السعيد وغيرهم. فهل يعقل لمن يملكون هذا السجل التاريخي الذهبي، أن يديروا ظهورهم للوحدة الوطنية؟ كلاّ وألف كلاّ.
وفي هذا الطرف العصيب، لا بد من كلمة عرفان وتقدير توجّه إلى والد الضحية الحزين، ففي الوقت الذي كنّا نخشى فيه تفاقم الأزمة وتراجع المدّ التضامني الوطني مع المناطق المتضررة، جرّاء ارتكاب جريمة قتل الشاب جمال بن اسماعيل، أرسل الله لنا بلسما ناجعا على لسان الوالد المفجوع، فرغم الخطب الجلل والأمر الفادح، فقد وفّقه الله في ضبط النفس وفي تغليب الحكمة، فسحب فتيل الفتنة الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الاشتعال بدعم من أعداء الوحدة الوطنية من آفاق مختلفة. فأطلق الوالد المجروح بجرح غائر، ذلك التصريح العقلاني الدال على قمة الوعي السياسيّ، دعا فيه إلى غلق باب الفتنة، موضّحا أن المجرمين لا يمثلون القبائل بل يمثلون أنفسهم فقط، وأن أواصر القرابة والأخوة والمصاهرة التي تربطه بالقبائل، أقوى من أن تتأثر بجريمة معزولة اقترفتها أيادٍ آثمة لها مشروع دنيء. هذا ولا شك أن التاريخ سيسجل موقف هذا الوالد الواعي، بأحرف من ذهب باعتباره “صمام أمان” في وقت الشدة، وعليه فهو جدير بكل أشكال التكريم على ما بذله من جهد وتضحية للحفاظ على الوحدة الوطنية. ألف شكر أيها العظيم الذي أعطى الدرس المناسب، في الوقت المناسب.
وآخر دعوانا : ربّنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.