ظلمــــة الفجـــر…
يكتبه د. محمّد قماري/
قد يعجب بعض القراء من هذا العنوان، إذ الفجر عند الناس عنوان لانبجاسة خيوط الضوء، فكيف تحدثنا عن ظلمة الفجر، والفجر لحظة ميلاد جديد، ولذلك حدثنا القرآن عن (تنفس الصبح)، والصبح هو الوقت الذي يتلو الفجر، فما الذي يسبقه؟
الحقيقة أن الزمن الذي يسبق الفجر، هو أشد أوقات الليلة ظلمة وعتمة، فهو يشبه حلق النهر الذي يسبق المصب، حيث تجتمع فيه كل ما يسوقه جريان النهر من ماء محمل بما يجده في طريقه، فإذا اندفع إلى المصب تطهر المجرى كله، وتجدد وأصبح ماؤه صافيا لا أوضار فيه، وما يسبق الفجر من ظلمة حالكة هي لحظات (الغاسق إذا وقب)، وبعده يأتي الفجر وينفلق الصبح، قال الشاعر:
والليل إن تشتد ظلمته *** قلنا الفجر لاح
ولا يختلف عالم الاجتماع وحركة البشر عن هذا المشهد الكوني، فالأديب والطبيب الروسي أنطوان تشيخوف، لمح هذا المعنى عندما قال: (يقولون أن البشرية تعيش في زمن صعب، ومتى لم تكن البشرية في زمن صعب؟)، وهو يلمح إلى مآسي البشرية عبر التاريخ، وكيف خرج من رحم تلك الصعوبات ما يمدها بالحياة و(التنفس) من جديد، وقد تجتمع على جماعة أو أمة أكثر من صعوبة فإذا بذلك الاجتماع يحطم أصنامًا كانت مخيفة ومقلقة، وفي ذلك يقول الإمام محمد بن حزم: (الهموم إذا التقت جميعا سقطت جميعا)، وهي لا تسقط بداهة من تلقاء نفسها، لكنها تعيد تشكي النفوس، وتخرج خلقا جديدا يتخطى المتاريس، ومحصنا من اليأس.
ولأجل ذلك أرسل القرآن الكريم تلك النسمة التي تقاوم اليأس، وتقاوم الانكسار: «حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ « (يوسف/ 110)، تلك الأوقات الحرجة التي تجتمع فيها المحن، وتتكاثف غيومها وتقذف الوهن في النفوس، وتركن إلى الاستسلام واليأس، هناك تنسج خيوط الفرج، وينبجس ضوء فجر جديد، ويتكاثف هواء نقي (يتنفس) من خلاله صبح جديد…
تلك سنة ماضية من سنن الخالق في عباده، يسلط عليهم سيف القدر كلما تعاظم إفسادهم في الأرض، وقد ينال غير المفسدين من العسر والضيق ما ينال غيرهم، لكن ألطاف القدر ورحمة الخالق بعباده ترفع البلاء وتعود دورة جديدة في حركة المجتمع…
إن الحرب العالمية الأولى والثانية، على سبيل المثال، كانت وبالاً على البشرية، لكن من المحنة خرجت البشرية منتصرة على أكثر من صعيد، سواء في عالم الكشوفات العلمية، أم في تحريك دورة الاقتصاد، ولعل الأهم من كل ذلك هو (تقليم) كثير من مخالب الهمجية والطغيان، والتأسيس لملامح عالم (غربي) تمحى منه البربرية والعنجهية والاستعلاء، وتحل محله الاحتكام للشرائع والقوانين والمواثيق، وإن استثنت تلك القوانين والشرائع بقية الشعوب والأمم من غير العالم الغربي…
لقد اجتمع على الجزائر في بحر الأسبوع الماضي محن مزلزلة، فإضافة إلى سريان وباء كوفيد، ومعه سرت بيانات النعي في كل مكان، وازدحمت المشافي، وشحت بعض وسائل الانقاذ، وظهرت سلوكات شاذة تستثمر في الأزمة، ومعها هبة خيرين تنادوا في سبيل اسعاف الأرواح، فبينما نحن كذلك اندلعت نيران في الغابات أتت على مئات وآلاف الهكتارات من الغطاء الأخضر، لكنها لم تمر دون أن تخلف ضحايا وتزهق أرواحا من البشر، ومن متاع الناس وبيوتهم…
تلك (ساعة عسيرة)، حرّكت همم الأخيار، ودفعتهم لتقديم العون، ومسح بعض أثار تلك الكوارث، وتنادى الناس من مختلف الأماكن إلى نجدة اخوانهم، ومساعدتهم بما يمكن من وسائل المعونة، ورسمت تلك الهبة مشهدا جميلا في النفوس أولا وعلى مستوى الضمائر، وتحركت تلك الثقافة الأصيلة ثقافة تقاسم (الهم) و(الاهتمام): (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) يقول نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، فهو حمل وتقاسم (للهم) في الضمائر أولا، واستحضار لدائرة الانتماء الموسع ثانيا.
لكن لشياطين الانس نصيبهم في كسر تلك اللوحة الرائعة، وتحطيم تلك الرابطة الوطنية التي التحمت في الضمائر، كان لابد من كسرها وتشويهها، وتلك محنة جديدة تضرب في عمق الضمائر والنفوس، وفتنة مزلزلة تقصم الظهور، وتزيد الظلمة حلكة وسوادا…
لكنهم لم يقرؤوا كلام الإمام بن حزم: (الهموم إذا التقت جميعا سقطت جميعا)، فذلك الشاب الذي مضى شهيدا بأياد غادرة ونفوس متعفنة، انطلقت مع كل نفس من أنفاسه المغدورة براميل أكسجين تحي نفوسا وتفتح عيونا ركبتها غشاوة، وأذانا طغى عليها الران…لقد حررت أنفاس الشهيد من أراد الشياطين حبسهم، ورجع الناس إلى أنفسهم، يتلقون تنفسح الصبح الجديد وتتلقى أبصارهم ضوء خيوط فجر غامر.