سؤال النهضة بين المقاربة التجزيئية والمقاربة الكلية
د. بدران بن الحسن */
يعد سؤال النهضة الحضارية في العالم الإسلامي من الأسئلة المركزية، إن لم يكن السؤال المركزي وأم الأسئلة كلها. ذلك أن امتنا منذ قرنين من الزمان تقريبا وهي تطرح سؤال التخلف الحضاري وكيفية الخروج منه، وكيف نحقق نهضتنا. ولعل خير معبر عن مركزية هذا السؤال ما كتبه الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين في كتابه الشهير: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟».
وبالرغم من مركزية هذا السؤال وأهميته في إذكاء الوعي بحالة التخلف الحضاري، وهامشية أمتنا بين الأمم في صناعة الحضارة في العصر الحديث، فإن المقاربات والجهود للإجابة عن هذا السؤال المركزي وتحقيق النهضة قد شرّقت وغربت، ولم تحقق المطلوب.
بل تاهت معظم جهود النهضة في مقاربات جزئية تجزيئية، ومعالجة الاعراض بدل تشخيص المرض بدقة وتشخيص أسبابه وبناء الحلول والعلاج لذلك. نظرا لغياب مقاربة كلية تشخص المرض، وتجمع كل أبعاد المشكلة، وتنظر إليها بمنظور كلي متكامل، يجمع كل المشكلات في منظور واحد، ويعالجها في إطار يجمع بين تشخيص التخلف وأسباب، وبين بناء مشروع النهضة.
بمعنى أننا في حاجة إلى الخروج من التجزيء إلى التركيب، ومن الجزئية إلى الكلية، بحيث نبني منظورا كليا لتشخيص أمراض أمتنا وحضارتنا الإسلامية، ووصف العلاج لها؛ منظور يوفر فهمًا كليًا دون اختزال لمشكلاتها الجزئية. منظور حضاري كلي ينظر إلى مشكلات الأمة على أنها تنضوي تحت مظلة واحدة هي غياب حضارتها عن المشاركة الفعالة في العالم اليوم، بما تتضمنه النهضة الحضارية من ابعاد، تنتظم كلها في ترابط مع بعضها؛ مما نسميه في مكانٍ ما مشكلة سياسية، وفي مكان آخر مشكلة اقتصادية، وفي مكان ثالث مشكلة أخلاقية وهكذا (بن نبي، شروط النهضة، 45).
وهذه النظرة التكاملية تساعد أمتنا وهي تبحث عن صياغة بناء حضاري جديد، في معالجة مشكلة تخلفنا الحضاري بلا اختزال ولا سطحية، بل تنصب الجهود في تشخيص أسباب الغياب الحضاري الذي دام مدة طويلة كانت خلالها خارج التاريخ، بلا هدف. حتى يتوقف هدر الإمكانات المادية والمعنوية في أمتنا، ويتوقف تضييع الوقت والجهد، بسبب عدم التحليل المنهجي للمرض، الذي نتألم منه منذ قرون طويلة.
وعدم التشخيص العلمي الدقيق لمشكلاتنا وأمراضنا، جعل جهود أمتنا من أجل النهضة تغرق في الحلول الجزئية، وجعل رؤيتنا تصاب بالتجزيئية، حتى اختلفت الاطروحات وتضاربت؛ بين السياسي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي …الخ.
إن هذا التاريخ الممتد من السعي إزالة العقبات أمام النهضة الحضارية لأمتنا ينبغي البحث في جوهر الأزمة وحقيقة المرض، وعدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض أو المظاهر الجزئية التي تطفو هنا وهناك في صورة أو أخرى. كما ينبغي أن ينطلق من إطار يجمع كل تلك المظاهر الجزئية لمشكلة تخلفنا الحضاري، ولا نغيِّب أحدها، وهذا الإطار يكمن في إرجاع الأزمة إلى جوهرها؛ الذي هو مشكلة غياب حضارة المسلم، وغيابه عن صنع التاريخ، وهو إطار ينبغي أن ينظم كل الجهود الإصلاحية، لنحقق النهضة الحضارية التي طال العمل لها في أمتنا.
وهذه الرؤية الكلية ستخرجنا من النظر التجزيئي، والمعالجات الجزئية، إلى توجيه البوصلة إلى جوهر مشكلاتنا، والتركيز على حلها بدل الإغراق في لوم الاخرين على ما نحن فيه وتوجيه سهام اللوم نحو الغرب أو الشرق. ولعل مالك بن نبي محق حينما رأى أن تخلفنا أسبابه داخلية في الأساس، وأن المرض كامن في نفس المسلم، وفي ثقافته الموروثة، كما هو كامن في سلوك المسلم وتصرفاته اليومية، وفي قلبه وعقله.. والأزمة تكمن في الأدران العالقة بالمسلم من تراث الانحطاط عبر القرون، أكثر ما هي بسبب خارجي وافد. ولكن المسلم منذ قرنين من الزمان يسعى للعلاج من أمراضه، ليس بتشخيصها، وإنما باستيراد حلول لها. فهو يسعى للعلاج من الاستعمار ونتائجه، من الأمية بأشكالها، ومن الفقر رغم غنى البلاد بالمادة الأولية، ومن الظلم والقهر والاستعباد، من ومن، ومن، وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه، بل كل ما في الأمر أنه شعر بالألم، ولا يزال الألم يشتد، فجرى نحو الصيدلية، يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام. وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية، فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض. ونسي المسلم أن المشكلة التي يواجهها لا تتعلق بنقص في الوسائل حتى نستوردها ونكدسها، بل يتعلق بأزمة في الأفكار، وفي كيفية البحث عن حلول موضوعية لها (بن نبي، شروط، 41؛ مشكلة الأفكار، 70).
بمعنى أننا ما لم نشخص أمراضنا تشخيصا عميقا ودقيقا من قبل خبراء يؤمنون بهذه الأمة، فإننا لن نستطيع أن نتقدم إلى بناء نهضتنا الحضارية. وهذا يقتضي منا الخروج من مقارباتنا الجزئية التجزيئية السطحية التي تعالج الاعراض، ونتجه إلى مقاربة كلية تشخص المرض وتضع العلاج وفق الحالة المرضية.
أي أن نهضتنا الحضارية، لتتحقق، تحتاج منا أن نعمل على محورين؛ محور تشخيص المرض وغزالة أسابه، ومحور صياغة مشروع نهضة. وذلك بأن نبحث في أسباب التخلف الحضاري الذي تعيشه الأمة بالرغم من أن بداية محاولات النهوض قد تجاوزت قرنا من الزمن، والبحث في معيقات خروجنا من التخلف وتحقيق التحضر، وأن نبحث في كيفية تجاوز المعيقات وتحقيق نهضة حضارية.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/
جامعة قطر