مــــن دروس محنـــــة الحـــرائـــق
أ. عبد الحميد عبدوس/
لهيب، وحزن، وغضب، ودعاء، طبعوا يوميات الجزائريين في هذا الشهر( أوت) المتميز بحرارته العالية ( درجات حرارة قياسية في مدن جنوب الجزائر وشمالها) ، وبأزماته الصحية،
( استمرار الانتشار الفتاك لفيروس كوفيد 19) وبتوتراته الاجتماعية ( اشتداد أزمة نقص المياه وضعف توزيع الكهرباء وغلاء المعيشة)، وبخيباته الرياضية( فشل تاريخي للوفد الرياضي الجزائري في أولمبياد طوكيو 2020)،وبترويج فاحش عبر وسائل ومواقع التواصل للأكاذيب والأباطيل والمغالطات والدعايات للمس بالأمن النفسي والاستقرار الاجتماعي للجزائريين.
توالت المحن على الجزائر، وكانت أشدها وقعا في الأيام الأخيرة تلك الحرائق التي لم تشهد الجزائر منذ عشرات السنين مثيلا لها في قوتها وانتشارها في وقت متزامن إذ مست بعد ساعات من انطلاقها 14 ولاية، فنجمت عنها مشاهد مروعة تذكر بأهوال يوم القيامة، وخلفت خسائر فادحة في الارواح والأملاك، وخرابا كارثيا في البيئة والمحيط الحياتي، كل هذه العوامل أغرقت الجزائر في حداد وطني، وجعلتها محط تضامن عربي ودولي.
الفاجعة بدأت يوم الاثنين 9أوت 2021عشية حلول السنة الهجرية الجديدة 1443 حيث اندلع58 حريقا بمنطقة تيزي وزو في سويعات معدودة التهمت بسرعة قياسية مئات الهكتارات، ثم توسعت الحرائق فيما بعد إلى أكثر من 17 ولاية من ولايات الوطن هي: بجاية وجيجل والبويرة وسكيكدة وسطيف وقالمة وخنشلة وعنابة والطارف وسوق أهراس وتبسة، تيارت والشلف وعين الدفلى والمدية والبليدة وبومرداس.
كانت آخر حصيلة رسمية لضحايا الحرائق
(صباح الخميس 12أوت ) هي 69 شهيدا منهم 28 عسكريا 41 مدنيا وعددا من الجرحى بدرجات متفاوتة الخطورة. وما زاد في مرارة المأساة أن أغلب تلك الحرائق كانت بأيد إجرامية ودوافع تخريبية ،ولم تكن أرواح البشر ومكامن الحيوانات ومساحات الشجر هي المقصود فقط بنيران الأعداء والخونة ومهندسي المؤامرات وقراصنة الفتن، بل كان المقصود هو حرق روابط الأخوة والوحدة الوطنية بين أفراد الشعب الجزائري، وضرب أواصر التلاحم بين مكوناته الحيوية من شعب وجيش. كانت المنطقة الأشد تضررا والأكثر تأثرا بمأساة الحرائق هي منطقة القبائل. لقد شارك منذ اندلاع الحرائق وبجهود معتبرة عناصر الحماية المدنية والجيش الوطني الشعبي وحماية الغابات والمتطوعون من المواطنين لمحاولة إخماد الحرائق، ولكن نقص الإمكانيات اللازمة لإخماد هذا النوع الهائل من الحرائق المروعة كالطائرات المتخصصة وتوفر نقاط المياه والمسالك الغابية المفتوحة حالت دون التمكن من السيطرة عليها قبل انتشارها وتوسعها.
الخلفية الإجرامية لحرائق الجزائر أكدها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في خطابه للأمة مساء الخميس الماضي( 12أوت) حيث أعلن أن عدد المشتبه فيهم بإشعال الحرائق في غابات البلاد بلغ 22 شخصا منهم 11في تيزي وزو، 2 في جيجل ، 4 في عنابة، 3 في المدية، 2 في عين الدفلى، وقد تم إلقاء القبض على هؤلاء المشتبه فيهم بفضل التعاون الفعال للمواطنين الشرفاء.
كان وزير الداخلية كمال بلجود عند زيارته رفقة وفد وزاري إلى ولاية تيزي وزو المنكوبة يوم الثلاثاء 10 أوت غداة اندلاع الحرائق لتقديم واجب العزاء لأهالي المنطقة قد أشار في تصريح للصحافة إلى وجود أياد إجرامية خلف الحرائق وقال: «اندلاع 50 حريقا في نفس التوقيت من المستحيلات السبعة ومصالح الأمن ستباشر التحقيقات اللازمة». الفعل الإجرامي في نشوب حرائق الجزائر أكده كذلك رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق سعيد شنقريحة، والوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن، ومسؤولو الحماية المدنية، وأمن الغابات، والوكالة الفضائية الجزائرية خلال تطرقهم للحديث عن موضوع الحرائق حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية الخاصة بخريطة الحرائق مؤشرات قوية على تأكيد فرضية الفعل الإجرامي المتعمد، حيث أن العديد منها انطلق من الأماكن القريبة من حواف الطرق لكي يسهل على مشعلي الحرائق سرعة الفرار عبرها بجلودهم.
كما أشار النائب العام بمجلس قضاء تيزي وزو، إلى إن الحرائق التي اجتاحت العديد من الولايات اندلعت بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس تبون خلال اللقاء الذي عقده مع الصحافة، قائلا: «هذه النيران التي اندلعت في آن واحد في نقاط غابية مختلفة وفي زمان قريب جدا وفي حيز جغرافي مختلف، هذا عبر ولاية تيزي وزو فقط بغض النظر عن باقي الولايات، هذه عملية مدبرة من أشخاص وأطراف لا يريدون الخير لهذه البلاد.»
قبل اندلاع الحرائق الأخيرة في 9 أوت الجاري، كان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون قد أمر في مجلس الوزراء المنعقد في 25 جويليه الماضي بصوغ مشروع قانون يشدد عقوبة المسؤولين عن إحراق الغابات إلى 30 سنة سجنا مع رفع العقوبة إلى السجن مدى الحياة للمتورطين في إشعال حرائق تؤدي إلى وفاة أشخاص. وكانت ولاية خنشلة قد شهدت حرائق إجرامية في أوائل شهر جويليه المنصرم تسببت في تدمير مئات الهكتارات من الحشائش والغابات والأشجار المثمرة، وقد تم القبض على 3 مشتبه فيهم بالإشعال العمدي للنيران.
غير أن جريمة الجرائم، وكارثة الكوارث في مصيبة الحرائق المتعاقبة هي إقدام شرذمة من المتضررين من الحرائق في منطقة الاربعاء نات إيراثن في ولاية تيزي وزو على خطف وتعذيب شاب اشتبهوا في تورطه في اندلاع الحرائق وتم إعدامه حرقا دون تثبت أو توفر بينة ودون محاكمة عادلة. هذا الفعل الهمجي البشع الشنيع المخالف للأعراف الاجتماعية القيم الدينية والضوابط القانونية لاقى تنديدا وإدانة رسمية وشعبية، واثار غيض واستهجان أغلب فئات المجتمع الجزائري، فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي وبيانات الطبقة السياسية بالغضب والاستنكار لجريمة حرق الشاب جمال بن سماعيل القادم من ولاية عين الدفلى، وبالضبط من مدينة خميس مليانة بلد الشهيد البطل علي عمار (علي لابوانت) الذي جاء للتضامن مع إخوانه وأبناء وطنه من سكان منطقة تيزي وزو، وشاء القدر أن يذهب ضحية النزق والتهور والانفلات من ضوابط العقل والقانون، هذه الجريمة المنكرة التي تسبب فيها تلبيس إبليس، والانسياق دون ترو وراء منزلقات الغضب والرغبة في الانتقام والاقتصاص من مشعلي الحرائق كادت أن تضيف نيران الفتنة الوطنية إلى نيران الحرائق الإجرامية. و قد أعلنت وزارة العدل عن فتح تحقيق في ظروف وملابسات إقدام مجموعة من الأشخاص بمنطقة الاربعاء ناث إيراثن على إحراق الشاب جمال بن اسماعيل حيا بعد اتهامه بإشعال الحرائق. ووعدت بالكشف عن هوية الفاعلين وتقديمهم أمام القضاء حتى لا تمر الجريمة البشعة بدون عقاب.
ودون الدخول في سياق التهويل والمشاحنات اللفظية فإن عدم القبض وإنزال العقاب اللازم على قتلة الشاب جمال بن اسماعيل سيؤدي إلى حرق هيبة الدولة، خصوصا بعد تأثر بعض المواطنين بالدعاية المغرضة التي روجت لكون عناصر الأمن هم من سلموا الشاب جمال بن اسماعيل للغوغاء المهاجمين الذين طال غضبهم واعتداءاتهم حتى رجال الأمن الذين كانوا موجودين في مكان الحادث. ولذلك أكدت مواقع التواصل الاجتماعي على أن أقصر سبيل لاحتواء الوضع هو بكل تأكيد توقيف الوحوش المتسببين في مقتل الشاب وتقديمهم أمام العدالة وتحديد المسؤوليات في هذه القضية.
بعد مرور ثلاثة أيام على جريمة إحراق الشاب جمال بن اسماعيل يمكن القول أن مخطط كهنة الفتنة قد خاب وانكسر والدليل على ذلك ازدحام قوافل التضامن المتوجه من مختلف ولايات الوطن إلى ولايات تيزي وزو وبجاية المعبرة عن تلاحم الشعب الجزائري وتمسكه القوي بوحدته الوطنية وقيمه الدينية، كما كان الموقف الشهم والمتعقل والمتسامي للسيد نورالدين بن اسماعيل والد الضحية الذي دعا إلى عدم الانسياق وراء مروجي الفتن، فكان حقا « كنزا من الصبر والحكمة» كما وصفه بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي. كما عبر أعيان وممثلو لجان قرى منطقة الاربعاء ناث إيراثن عن تبرئهم من أفعال مرتكبي الجريمة الشنعاء في حق الشاب جمال بن اسماعيل البعيدين عن كل ما يمت بصلة لقيم ومبادئ منطقة القبائل وتقديمهم لعائلة الفقيد أحر التعازي وخالص المواساة في فقدان ابنهم.