في رحاب الشريعة

ضــــرورة علــــم التسيــــير لبلوغ مستويات الفكر المستنير

أ. محمد مكركب/

في دراسة أحوال الأمم، لايكون الغرض من هو المخطئ، وإنما الغرض معالجة الخلل، وتصحيح الخطأ. وبعبارة أخرى يجب النظر إلى حال الأمة بكل واقعها، والنظر إلى جسد الأمة ككل، ثم محاولة إصلاح ذلك الواقع الذي تعيشه الأمة، وعلمتم أن الواقع مجموعة من العوالم: عالم الأحياء. وعالم الأشياء. وعالم الأحداث. وعالم الأفكار. وعالم النظم. ونبدأ البحث في موضوعنا بهذا السؤال.
هل الواقع المتردي الذي تعيشه الشعوب المتخلفة نتيجة لموانع قاهرة، خارجة عن الإرادة والقدرة؟ وما هو السر في هذا الأمر؟ إن القضية وما فيها أن ربابنة السفن في هذه المجتمعات يفتقدون مفاتيح الوعي المطلوب كالبوصلة ومقادير المسافات، أو قل فقدان علم التسير، وذلك منذ عصر الانحطاط، إلا من رحم الله سبحانه. فالسر إذن، أن الشعوب الحضارية المتقدمة عبر التاريخ هي التي قادها علماء، وولاة ومسيرون يمتلكون مفاتيح الوعي المطلوب الذي هو فن القيادة الحكيمة، بالوسائل المشروعة العلمية الكافية، وأهم مفتاح من مفاتيح التسيير والقيادة هو تدبر القرآن والخبرة الكافية من التطبيقات العملية. ومثال ذلك للدراسة قول الله تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ قد تكونون استمعتم لهذه الآية عشرات المرات، بل يمكن عند بعضنا أنه سمعها آلاف المرات. إذن ما هو الجديد؟ والجميع يعلم أن قول الله عز وجل حق وصدق، وأنه، محكم واضح ومفصل، وأن فيه الخير الكثير، فلماذا لايعملون به؟ إذن فهذا هو الجديد في الموضوع، لماذا لايتبعون طريق الإيمان والتقوى لتفتح عليهم البركات؟. والجواب أن كثيرا لا يملكون مفتاح الفكر المستنير، الذي يبدأ بفهم المصطلحات لبلوغ فقه التسيير، ومن فقه المصطلحات إلى فقه التسيير يصل المفكر إلى الفكر المستنير، ويصير رُبَّانًا ناجحا.
يبدأ التفكير الواعي من فهم المصطلحات، أي: لغة الخطاب. أليست كلمة حوار (مثلا) تجدها على كل لسان، ومع ذلك فالذين يؤمنون بالحوار ويقدسونه حسب أقوالهم، لايتحاورون ويتقاتلون؟! لماذا؟ لأنهم يجهلون معنى الحوار بسبب جهل المصطلح. ثم أليست كلمة الحب (مثلا) تجدها على كل لسان، والناس يؤمنون بأن المتحابين يحبهم الله، ويدخلهم الجنة، وأن الحب طريق الخير، ومع ذلك يكرهون بعضهم ويحقدون على بعضهم، ولا يتسامحون، ولا يتصالحون،؟ لماذا؟ لأنهم لا يفهون معنى الحب، أي يجهلون حقيقة المصطلح.. تعالوا لنعود إلى الآية الكريمة. ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ ما هو المطلوب منا في العمل بهذه الآية؟ المطلوب: فهم مصطلح: الإيمان، والتقوى، والبركة. ومعنى هذا التركيب اللغوي: ﴿وَلَوْ أَنَّ﴾
لننتبه من البداية. فبعض المسلمين عندما يسمع الدعوة إلى الإيمان والتقوى، بسرعة ودون تفكير يحكم لنفسه أنه مؤمن، وتقي،. وإذن يقول مع نفسه: ليس هو نفسه المقصود بقوله تعالى، في الآية نفسها: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ولم يعلم أن المقصود بالإيمان، هو العمل بمقتضياته في الموضوع المستهدف في الخطاب. فالآية خطاب لكل الناس من الكافرين والمؤمنين، فكيف ذلك؟ ذلك، أن المطلوب من المشركين والكافرين، إن أرادوا أن تُفْتَحَ عليهم أبواب البركات ويرضى عنهم خالق الأرض والسماوات، وجب عليهم أن يُقِرّوا بالشهادتين عن صدق، ويقين، وأن يؤمنوا بسائر أركان الإيمان، والعمل بشريعة القرآن إلى غير ذلك من شروط وضوابط التَّدَيُّن.
وأما المؤمن فينظر إلى القضية التي يريد أن ينتصر فيها، وأن يوفقه الله تعالى لنيل مُبْتَغَاهُ، أن يتوب من كل ذنب، وأن يقلع عن كل معصية، وأن يحب لكل المؤمنين ما يحبه لنفسه، وأن يتأخى مع كل من (تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة) ولا يقاطعه، ولا يتحزب في حزب ضد الآخرين من المؤمنين، أو في جماعة يميز نفسه عن باقي المسلمين. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فالكافر عليه أن يؤمن بالدخول في الإسلام والعمل بكل أركانه وفرائضه. والمؤمن عليه أن يتم العمل بشعب الإيمان. ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين آمنوا، بأن الله يدْفع عنهم كل مكروه، من شر الكفار، وشر الشيطان، وشرور أنفسهم، ويخفف عنهم الشدائد. ثم إن كل مؤمن له من هذه المدافعة بحسب إيمانه. وفهم هذه المسألة هو أن الله تعالى يدافع عن المؤمن الحق كما يريد الله، وكما يحب لعبده، والمطلوب من العبد أن يثبت على يقين تام في توكله على الله، وأن يؤمن عن يقين أن ما يصيب العبد مما يشاء الله تعالى.
ثم إن الله نصر المؤمنين حقا في غزوة {بدر} لَمَّا آمنوا. الإيمان الحق، ثم الإيمان بموضوع القضية التي هم فيها، كيف ذلك؟ ماذا كان المطلوب منهم؟
1ـ كان المطلوب منهم أن يتحدوا، فاتحدوا، فلا أحزاب تفرقهم، ولا مذاهب تخالفهم، ولاتسميات مبتدعة تثير الحقد بينهم، كلهم مسلمون وكفى، فكما سماهم ربهم، سموا أنفسهم. 2 ـ كان المطلوب منهم أن يكونوا إخوة بحقيقة الأخوة الإيمانية، ففعلوا وصارت جيوبهم جيبا واحا. 3 ـ وكان المطلوب منهم أن يطيعوا إمامهم وأميرهم وقائدهم وهو يومها النبي صلى الله عليه وسلم، طاعة كاملة فكانوا كذلك لو خاض بهم البحر لاتبعوه. 4 ـ وكان المطلوب منهم أن يُعِدُّوا كل ما استطاعوا تطوعا منهم ففعلوا، فباعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى. 5 ـ وأن يخلصوا العمل لله ففعلوا. 6 ـ كانوا على انضباط تام في المعركة.7 ـ أمرهم الله تعالى بالدعاء والذكر، فدعوا الله وذكروه.8 ـ وكانوا يريدون الآخرة، لا المناصب، ولا المكاسب.
هذا هو الإيمان العملي في الموضوع. حتى إن الذين سألوا عن الأنفال بعد المعركة، وبعد النصر الكبير، وبعد الطاعة الكاملة لله تعالى. ذَكَّرَهُم الله تعالى بأن من أسباب دوام النصر لهم أن يتقوا الله. وقال لهم سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ هل أنتم خرجتم في سبيل الله؟ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيل الله وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تسألوا عن الأنفال، واتركوا أمر تقسيمها لله والرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى:﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ (سورة النساء:141) لن يكون التسلط للكافرين على المؤمنين إن كانوا مؤمنين حقا وصدقا عمليا ومن الضروري أن أعيد عليك ما سبق من الشروط، وهذا للتقرير وليس من التكرار. 1 ـ أن يكونوا إخوة حقا، غير متفرقين إلى طوائف، ولا إلى أحزاب.؟. 2 ـ أن يكونوا تحت راية واحدة وقيادة إمام واحد. 3 ـ أن لا يتعمدوا مخالفة أي حكم شرعي. 4 ـ أن يحكموا بالعدل، ويتعاملوا بالإحسان. 5 ـ أن لايستعينوا بكافر، وأن لا يوالوا كافرا. 6 ـ والمؤمنون لايُصِرُّون على منكر، كبيع الخمور، والتعامل بالربا، والمكوس، ومحلات الفجور، وهذا هو التطبيق الموضوعي للإيمان. أي أن يستقيم المؤمنون كما أُمروا. ثم من جملة التطبيقات لمقتضيات الإيمان، هو الإعداد. وهو بصفة عامة {العمل المنتج الذي يحقق الاكتفاء الذاتي بمفهوم الاقتصاد} أي: أن الإيمان يقتضي من المؤمنين أن يصنعوا أسلحتهم بأيديهم، وأن ينسجوا ثيابهم بأيديهم، ودواءهم وغذاءهم وشرابهم ومراكبهم، حينها تكون لهم السيادة والقيادة والريادة، وحينها يستحقون أن يكونوا شهداء على الناس، وحينها يحررون فلسطين، ويعيدون الأراضي المسلوبة، وينصرون الشعوب الغلوبة. ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ والحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com