متى تؤثر الـمدرسة في السلوك الاجتماعي؟
أ. خير الدين هني/
دور المدرسة -كعنصر بنيوي- في تقويم السلوك الاجتماعي، يستدعي كما وافرا من المعرفة النفسية والتربوية، إلى جانب الخبرة الطويلة في المهنة تدريسا وإشرافا وبحثا ودراسة، حتى يكون الحكم مبنيا على تصور دقيق وموضوعي، ويتناول التطور التاريخي لفلسفة التربية وأبعادها العميقة، وعلاقة هذا التطور بالثورات العلمية والتكنولوجية التي أحدثت تغييرا كبيرا في تفكير علماء التربية والنفس، وبناء تصور لما يجب أن يكون عليه وضع التربية في المستقبل المنظور، وما نتج عن ذلك من تطور كبير في الدراسات النفسية، وهي الدراسات التي سرّعت من تقدم علوم التربية، انطلاقا من الحاجات الاجتماعية، وما تستلزمه من تلبية الرغبات الجامحة في توفير السلع والبضائع والخدمات، بمعايير الوجاهة المعيارية في الجودة والاتقان.
وأساس هذه الثورة في الإصلاح التربوي، هو الفلسفة النفعية التي طورها (وليام جيمس وجون ديوي) بعدما كانت الفلسفة المثالية هي جوهر أي بناء لفلسفة التربية والتعليم، لأن المثالية (مذهب خيالي يقابل الواقعيّة)، فشلت فشلا ذريعا في تحقيق النجاعة والمردودية بمعايير الجودة والإتقان، مما تتطلبه احتياجات العصور، إذ كان المتخرجون من الطلبة يواجهون مشكلات كبيرة، حينما يوجهون إلى سوق العمل والمقاولة والوظيفة، فتضطر المؤسسات الرسمية إلى إعادة رسكلتهم في تكوين جديد، وبموارد مالية إضافية أثر ت على إهدار المال والزمن والجهد.
وهذا التطور- في تصور الإصلاح التربوي- هو ما ينبغي التعمق فيه، بالاطلاع على الاختلافات الجوهرية بين المدارس النفسية والتربوية، والإلمام بمعرفة العلاقة العضوية بين الأنساق المختلفةـ وأي هذه الأنساق أكثر تأثيرا في فعالية الأنساق الأخرى المندمجة معها، ووجوب معرفة أن نجاعتها في تعديل السلوك الاجتماعي، إنما يكون بتلاحمهم العضوي كبنية واحدة غير منفصلة. وهذا ما أدركه الشاعر المحبط، قديما:
متى يبلع البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
والاعتماد على الرأي الشخصي أو تقارير الهيئات الدولية في تصنيف جودة التعليم، غير دقيق لأن الرأي الشخصي لا تحكمه القواعد العلمية والمنهجية في التقويم، والهيئات الدولية تقوّم الجودة بمؤشرات خاصة بها، تتعلق بالنواتج والمخرجات التي تسفر عنها نتائج النظم التعليمية، ولا تجعل في الاعتبار -عند التأشير للجودة- العلاقة النسقية في التأثير، لأن مراعاة العلاقة النسقية في التأثير من وظائف المؤسسات المحلية، فهي المخولة بوضع سياسة التربية والتعليم، واختيار مشاريعها التربوية، و استراتيجياتها ومخططاتها وفلسفتها، ونماذجها وأهدافها وغاياتها، وطرائقها وتقنياتها ووسائلها ونظم اختباراتها، وتقويمها، وتحديد الغايات البعيدة كمخرجات نهائية للتربية.
كما تحدد المعايير التي تنظم العلاقة النسقية بين المدرسة وغيرها من الأنساق الأخرى، وتجعلهم في بنية عضوية متكاملة في الأداء، وتضع تصورها المستقبلي لما يجب أن يكون عليه المواطن بعد التخرج من المدرسة، و ترصد الاعتمادات المالية لتحسين أوضاع المربين، وبناء الهياكل وصيانتها وتوفير الوسائل التكنولوجية والفنية للتكوين، وإنشاء النشريات العلمية والتربوية والبحث العلمي، وتحدد معايير التأهيل لوظيفة التدريس، والتأطير والتكوين والرقابة وإطارات التربية المشرفين، وتضع نظما للتحفيز والتشجيع والجزاء، و تحدد أعضاء اللجان الذين يقومون بالإصلاح التربوي والهيكلي، والمخططين والمؤلفين للمناهج والبرامج والمواقيت والكتاب المدرسي، وتضع معايير التأهيل لإطارات الإشراف على السياسة التربوية والتخطيط الاستراتيجي، وتضع القوانين والتشريعات التي تنظم العلاقات الاجتماعية، وتراقب الأفراد وتحاسبهم عندما يخلون بالنظام العام، وتحدد طبيعة هذه القوانين في الزجر والردع والتراخي، وتحارب مظاهر الفساد بقوة القانون.
فإن نجحت المؤسسات الاجتماعية والسياسية في وظائفها، واحترمت القوانين والتشريعات والإجراءات التنظيمية، فإن النسق التربوي ينجح في تحقيق الأهداف والغايات التي خططت لها التربية في أهدافها البعيدة، وحينئذ تحتل مؤسسات التربية المراتب الأولى في تصنيف الهيئات الدولية، لأن مؤشراتها تنطبق على نواتجها المعيارية، لكون النسق التربوي- كبنية مركبة ومعقدة- لا ينجح في بيئة منفصلة ومتوترة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، ومضطربة في التسيير والعلاقات الاجتماعية، وإنما ينجح النسق ويثمر في البيئات الاجتماعية والسياسية التي تحكمهما قواعد الصرامة والانضباط والسلوك الحسن.
وعلى هذا يمكن القول: إذا أردنا أن يكون النسق التربوي ذا أثر فعال في تقويم السلوك الاجتماعي، يتعين على المؤسسات المسئولة ألا تتركه منفصلا عن بقية الأنساق الأخرى، وإنما تدمجه ضمن بنية مركبة مع غيره، كالنسق الاجتماعي والثقافي ونسق الشخصية الفردية، وأن هذه الأنساق مجتمعة لا يمكنها التأثير في العلاقات الاجتماعية، وتقضي على المظاهر السيئة للسلوك الفردي والجمعي، إذا لم تكن المؤسسات الاجتماعية والسياسية ملتزمة بالمعايير الناجعة في التسيير والرقابة.
والذين يعتمدون على الانفصالية النسقية في النجاعة، ويعتبرون جودة المناهج والبرامج، والطرائق ونظم الاختبارات والتقويم، جوهر كل نجاح وجودة، فهم غير دقيقين في أحكامهم، لأن مرجعيات القيم وجودة المحتويات والطرائق وغيرها، هي مكونات تربوية مجردة وغير ذاتية الحركة، والذي يضفي عليها الحياة والحركة هو الإنسان، بإرادته وجهده وقوة عزمه وتصميه، والإنسان هو الذي يجعل العلاقة عضوية بين الأنساق المختلفة في بنية متكاملة فاعلة، ويصهرها في بنية عضوية كجسم الإنسان أو أي كائن حي آخر، وفي هذه البنية المركبة تتضافر الأنساق فيما بينها كيما تحقق أهداف التربية وأبعادها، مثلما تتضافر أعضاء الجسم الداخلية والخارجية في تناغم تام، فيؤدي الجسم وظائفه الحيوية بكفاءة عالية، وسيرورة حياتنا بنشاطها وحيويتها وعطائها، هي ما نؤشر بها على سلامة بنية أجسادنا.
والذين يحكمون على انعدام التأثير المدرسي في تعديل السلوك الاجتماعي، يجانبهم الصواب لعدم إحاطتهم بالنظرية النسقية، التي أصبحت تحكم النظم التعليمية بغيرها من الأنساق ذات الصلة، وهم في أحكامهم مازالوا متأثرين بنظم المدارس التقليدية التي كانت تفصل بين الأنساق، في تأدية الوظيفة من غير تركيب بنيوي شامل، يوم أن كانت الأنساق مستقلة في بنياتها ومناهجها وبرامجها وأهدافها و وظائفها، أما في نظام المدرسة البنائية فمقارباته تبنى على مبادئ النظرية النسقية، حيث تشكل الأنساق وحدة بنيوية في علاقة أفقية متكاملة يكمل بعضها بعضا، وباستخدام النظرية النسقية في النقد والتقويم يمكن الحكم على التأثير المدرسي، بالفشل إن أخفقت المدرسة في تحقيق أهدافها الوظيفية، أو يحكم لها بالنجاعة إن بلغت عتبات الجودة والإتقان.
وجودة نواتج الاختبارات الشهائدية، وكفاية المتخرجين ومهاراتهم العالية، حينما يوجهون إلى سوق العمل والمقاولة والوظيفة والاندماج الاجتماعي- كما هو مخطط في أهداف التربية- هي المؤشرات الدقيقة التي نحكم بها على بلوغ مساعي التربية غاياتها.
النظرية النسقية:
ويُلخص مفهوم النظرية النسقية عالم الاجتماع الأمريكي “تالكون بارسونز” (1902/1979)، إذ قدم تصورا دقيقا للنظرية النسقية، انطلاقا من وضعه نظرية عامة في دراسة المجتمع أسماها (نظرية السلوك)، فجعلها نظرية بنيوية وظيفية لأنساق ثلاثة، حصرها في (النظام الاجتماعي والثقافة والشخصية)، إذ اعتبر هذه الأنساق متداخلة في بنيتها القيمية والعقدية وما يربطهما من رموز مشتركة، وهي العناصر التي يتكون منها كل مجتمع، فالنسق الاجتماعي يشمل مجموعة الأدوار التي يقوم بها كل عنصر في المجتمع، وهي الأدوار التي تبنى عليها القيم الاجتماعية بمعايير مشتركة تخدم الأهداف الاجتماعية المشتركة، والنسق الثقافي يتكون من العلاقات المتداخلة بين الرموز الثقافية والمعتقدات الدينية والأعراف الاجتماعية، ونسق الشخصية، تمثله الدوافع والغرائز والميول والمؤثرات والأفكار التي تحرك نزوع الفرد، ويمكن فهم درجة التكامل بين هذه الأنساق بما يجعل فهمها يأتي من طريق السلوك الشخصي والثقافة والنظام الاجتماعي بتفكيره وسلوكه وأعماله ومؤسساته السياسية والإدارية والأخلاقية، فالعملية مركبة وشديدة التعقيد والتداخل.
ويرى بارسونز، بأن الضرورة الوظيفية للنظام الاجتماعي، تجعل فيه القابلية للتكيف مع الأنظمة الأخرى بما فيها البيئة الطبيعية، فيحقق الوحدة بين أعضائه، والمحافظة على الاستقرار والانسجام، وتهيئة الظروف النفسية والشرائط الملائمة المساعدة على البقاء والاستمرار والتطور، وحسب بارسونز –دائما- فإن اللغة الموحدة هي القاسم المشترك الذي يساعد على التفاهم والاتصال بين الأفراد والجماعات.
ويمكن التلخيص: إن المؤسسات الرسمية، -كعنصر بنيوي هام في النسق الاجتماعي- هي من يُحدث التوازن البنيوي بين الأنساق المختلفة بسياساتها المتوازنة، لأنها هي من يوزع الأدوار والوظائف توزيعا عادلا أو غير عادل بين الأفراد والمجموعات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية، وهي من تملك القدرة – بحكم المشروعية- على جعل العنصر الثقافي برموزه الثقافية واللغوية والتاريخية عنصرا فعالا في البنية النسقية، وهي من توفر الأجواء النفسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية للشخصية الفردية، كي ينمي الفرد قدراته ودوافعه وغرائزه واتجاهاته نحو التطور، وتجعل الفرد يسعد في حياته حينما يشعر بأنه كيان محترم وله مسئولية نحو تطوير مجتمعه، و تكيّف العوامل النفسية والتربوية والاقتصادية للبيئة المدرسة كي تمارس المدرسة وظائفها بفاعلية ونجاعة، وبدون ذلك تكون المدرسة مشلولة الحركة والنشاط، وعاجزة عن تأدية وظيفتها التربوية بمعايير الجودة والإتقان، كما هو عليه حالها اليوم.