الحـــق الـمر

ساعة العسرة…

يكتبه د. محمّد قماري/

حققت البشرية في مجال انتصارات الطب في الخمسين سنة الماضية، ما لم يتحقق لها منذ خلق الله آدم، عليه السلام، وبحسب المرء أن يقف عند بعض الأدبيات في آخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ليدرك القفزة العملاقة التي تحققت!
إن المرء ليقف بين الأسى والضحك وهو يقرأ معاناة الكاتب الفرنسي الشهير غي دي موبسان (1893-1850)، كان الكاتب في سنوات عمره الأخيرة يعاني من مرض الزهري (السفليس)، ووصل به سير المرض إلى المرحلة الثالثة، وكان يعالج بوصفات مضحكة كالزئبق والزرنيخ ومعادن أخرى، غير أن هذا المرض الساري عن طريق الجنس، يفتك في مراحله الأخيرة بالدماغ، وإذا بالكاتب الرشيق الذي عهده الناس يتخيرّ عذب الألفاظ يهذي، ويرسل عِبارات تسيل العَبرات أسى على صاحب قلم كان ملء السمع والبصر…
آه يا موبسان، لو قدر لك الحياة بعد ذلك بسنوات، فبعد أقل من عشرين سنة من رحيلك اكتشف (فليمنغ) البنسلين، وهو علاج مرضك وكان يغنيك عن تلك المعادن الضارة، والعقاقير المهلكة التي ما زادت جسمك العليل إلا تتبيبًا، وبعد نصف قرن من رحيل موبسان أصبح علاج الزهري متيسرًا ومعروفًا…
ويقص علينا الشيخ علي الطنطاوي قصة طريفة مع عملية الزائدة الدودية، حيث مكث شهرين متتابعين في المستشفى، يقول: كنت ليلة متألماً فقرعت الجرس استدعي ممرضة الليل، في مستشفى الراهبات، وكانت غليظة سمجة بشعة تزيد ببشاعتها مرض المريض، وكانت فوق ذلك غبية نادرة في الغباء فأعطتني ما أمر به الطبيب من المسكنات فما أفاد فجاءت بشيء في يدها وقالت: خذ هذا وقَبِله باحترام وضعه على موطن الألم، قلت : ما هذا؟ قالت: إنه الصليب، فنظرت إليه فإذا عليه صورة إنسان، فتغابيت وتجاهلت وقلت: من هذا؟
قالت: هذا يسوع ابن الرب، قلت: ابن رب يصلب؟ ومن صلبه؟ قالت: اليهود، ألم تسمع بذلك؟ قلت: لا، مع أنني أقرأ الجرائد كل يوم فما نشر خبره فيها، قالت: إن هذا شيء قديم، حتى إن جدة أبي سمعته من الكبار ولم تعرف متى كان، قلت: وكيف صلبوه؟ وهل تعرفين المعري؟ قالت: ما أعرفه ولكن أعرف أين بيته، قلت: بيت من؟ قالت: بيت الأمعري لأنه كان على طريقي، قلت: ويحك المعري لا الأمعري يقول:
ليت شعري وليتني كنت أدري *** ساعة الصلب أين كان أبوه؟؟
قالت: كان مسافراً في الهند ومات على الطريق، قلت: ومن الذي كان في الهند؟ قالت: أبوه، قلت: أبو من؟ قالت: أبو الأمعري، فقلت لها: اذهبي من وجهي ولا تعودي، لقد زدتني بغبائك مرضاً على مرض… ورحم الله الشيخ علي، وتصوروا معي الحال في سنة 1937 كانت مدة الاستشفاء من عملية الزائدة الدودية شهرين، وهي اليوم لا تتعدى اليومين، يخرج بعدها المريض فرحا مسرورا !
وآخر وباء موسع عرفته البلدان الغربية، كان الزكام الاسباني سنتي 1919 و1920، ولذلك نسي الناس الأوبئة وقد كانت تطل برأسها بين الفترة والأخرى، ولأجل ذلك لما جاء وباء كرونا ومس أرجاء المعمورة فزع له الناس، في عالم تأتيك المعلومة فيه من أقاصي الدنيا في لحظتها، ولأول مرة وجد الأطباء أنفسهم يعملون تحت الأضواء، وعهدهم بالطبابة والتجريب والاختبار أن يعملوا في هدوء وبعيدا عن أنظار من ليس منهم…
وأصبح كل الناس يتحدثون في العلاج، والأشعة وأدق التحاليل الطبيّة، ويدلون بآرائهم في اللقاحات والأكسجين ويقبلون على اقتناء الأدوية كما لو كانوا أمام (بقالة) يتزودون بما يلزمهم منها من الغذاء !
إن السلوك القويم يقتضي أن يلزم الجميع روح السكينة والثبات في ساعة العسرة، ومن ذلك التثبت في نشر الأخبار، وعدم المسارعة في اشاعة ما يضفي الخوف والارباك في النفوس، فإذا كان بعضهم يندفع إلى هذا المسلك عن حسن نيّة وسوء تقدير، فإن تجار الأزمات يترصدون هذه السوانح ليشفوا أغراضهم المريضة.
ومع قتامة المشهد، واشتداد أزمة تنذر بأخبار الموت، فإن في الأمة منارات مضيئة بالخير، وأيادي حانية تمتد في لطف تخفف معاناة الناس، وهي من أعظم الصدقات، فمن قدم دواء أو جهازا يسعف به مريضا، فإنما اشترى وجاهة عند الله، وطمأنينة تعم أرجاء نفسه، وذكرا حسنا ودعاء بالخير من عباد الله، وهذه عملية إحياء لأنفس، والقرآن الكريم يقول في حق من أحي نفسا، فكأنما أحيا الناس جميعا…
إن الأزمة تمر لا محالة، والباقيات الصالحات ليست سوى هذا الجهاد في ساعة العسرة، حيث يبقى ذكره في الدنيا والآخرة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com