كثافة المعلومة وفوضى المعرفة

أ. عبد القادر قلاتي/
يعتقد الكثير من النّاس أنّ توفر المعلومات وكثافتها وانتشارها المفرط في عصرنا، مدخل صحيح للمعرفة، وأن امتلاك هذا الكم الهائل من المعلومات، والتوسع الكبير في حصرها وتجميعها وسهولة الوصول إليها، عندما يتعلق الأمر بأبسط الأشياء في حياتنا، يجعل الإنسان المعاصر سيد هذا الكون، والمتحكم في مصيره، وينسى هؤلاء -في لحظة الانبهار بتكنولوجيا المعلومات – مسبب الأسباب الأول ومُوجود الكون والإنسان والدواب، وخالق الأشياء من العدم، الله الخالق الأجل، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فإذا كان الله هو المسبب الأول، فكيف تغيب هذه المعرفة عن العقل المعاصر الذي استنجد بأدوات مخلوقة ليدرك بعض أسرار الكون والإنسان؟ ثم أعطى مطلق اليقين فيما أنتج من تصورات ورؤى حول الكون والإنسان ومجمل المخلوقات، فغاب عنه السرّ الخالد الذي أودعه الله فيه، وهو الفطرة السليمة التي تفسر علاقته بالكون وبخالق الكون، قبل أن تتسرب إليها -أي للفطرة – تصوراته ورؤاه -أي الإنسان المعاصر – فتفسد عليه التزامه وخضوعه لمنطقها، وهكذا فقد الإنسان المعاصر رشده، وأعلن تسيّده على الكون، واحتكاره للمعرفة بعيداً عن المنطق الديني الذي تجاوزه وأعلن بطلان حقائقه، والدعوة إلى هجرانه؛ لأنّه لم يعد -أي الدين -مصدراً للمعرفة التي احتكرها لنفسه، وأعلن فيما أعلن موت الإله وخلود الإنسان، فتحوّلت المعرفة وفق المنهج الجديد إلى نسبية تعضدها كثافة المعلومات واختلافها وتعدد تأويلاتها، فتغيب حقيقة الأشياء، ويتيه الإنسان مرة أخرى باحثا عنها انطلاقا من تسيّده المزعزم، ومرغما على التفسير لكلّ مستجد من نوازل عصره، فيتيه مرة أخرى مع ما جمعه من معلومات كثيفة ومتضاربة حد التضاد حول المسألة الواحدة، كلّ ذلك وهو يُردّدُ مقولته المتهافتة والمغلوطة: «الإنسان مصدر المعرفة»، فقط ليثبت فشل الأديان ونهاية الاعتراف بها، واستحالة سلامة منهج مصدرية المعرفة خارج الإنسان والكون، وهو عين الحداثة الغربية المعاصرة.