أين الـمنابـــــع الثقافيـــــة؟ من تاريـــــخ النهضـــــــة العلميـــــــة الإسلاميـــــة

أ. محمد مكركب/
عندما يحضر العلم والفقه والعدل، ويغيب الجهل والتنطع والظلم، وينعم المجتمع بالأمن والأمان، حينها تسود الثقافة الإبداعية وتقوم النهضة الأدبية والمدنية، ويستقيم أمر الإنسان، ويزدهر العمران، وهذه معادلة صادقة في كل زمان ومكان. هذا وإن إشكالية هذا البحث أو بواعث المقال في هذا المجال، هو ألف سؤال وسؤال عن القديم الجديد والمتكرر عبر السنين، الذي يؤرق الدعاة الباحثين، ويحزن السائلين. لماذا توقفت أو انتكست حضارات إسلامية كبيرة عظيمة، كانت مراكز الخيرات لسكان الأرض، منها ما كان بالعراق، (كالبصرة، والكوفة، وبغداد، والموصل)، وبالشام (كدمشق، وحلب، والقدس، وتدمر)، وبمصر (كالقاهرة، والإسكندرية،)، والأندلس (كقرطبة، وغرناطة)، والجزائر (كندرومة، وقسنطينة، ومتيجة،) وغير ذلك من تاريخ الحضارة الإسلامية. وشواهد كثيرة باليمن، والحجاز، وغيرهما.
أكبر غفلة غرق فيها كثير من المسلمين حكاما، وعلماء، ثم شعوبا بأكملها، هو انقطاع التواصل العلمي الثقافي بين الأجيال، أو قل هي هجران عوامل القوة الثقافية، لقد حظيت الأمة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري بنوابغ من المفكرين المصلحين، وعباقرة من المكتشفين والمجددين، وفطاحل من الأدباء والمثقفين، حتى صار للمسلمين مراجع علمية جامعة للشرف والمجد، وأكاديميات علمية طبية وصناعية فاقت نَظِيرَاتِهَا في العالم، وعاشت تقدما حضاريا ومدنيا كبيرا. ثم خلف من بعدهم خلْف أضاعوا العلم والتراث والبلدان والكرامة. وما أطل القرن السابع عشر للميلاد حتى كأن الشعوب العربية بالخصوص لم تر في حياتها حضارة ولا مجدا، وكأنها لم تسمع بعلماء مصلحين، ولا عباقرة مُنَظِّرِين، وكأنها قفزت فوق زمان الحضارات من عهد امرئ القيس الذي كان يقول:[ألَا أَيُّهَا اللَّيلُ الطويلٌ ألَا انْجَلِي* بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ] حتى وجدت نفسها عند محمود سامي البارودي وهو يقول: [فَسَوَادُ اللَّيْلِ مَا إنْ يَنْقَضِي * وَبَياَضُ الصُّبْحِ مَا إِنْ يُنْتَظَرْ] ولا تزال الشعوب المسلمة عامة والعربية خاصة في ليل بكل سواده وظلماته، وتنتظر الصبح المشرق بنور النهضة، والخروج من الغفلة التي غرقت فيها، بعد أن قيدت نفسها بيديها بحبال التبعية لغيرها.
فما هو المقتضى والمطلوب لبعض الشعوب المصابة بهذا المرض المزمن، مرض الغفلة، والتبعية للمنابع الثقافية الأجنبية، ومرض الأزمات الأخلاقية، والسياسية؟؟ أولا واجب العودة إلى بناء النفس، والحضور الحضاري الواعي في عالم الواقع كما هو بعوالمه، مع العلم. أن الأسباب التي آتاها الله سبحانه لذي القرنين، ولعمر بن الخطاب، ولهارون الرشيد، ولصلاح الدين الأيوبي، هي متاحة لهذا الجيل، بل وأكثر مما كانوا في زمانهم. ومطلوب من هذا الجيل إيمان وإخلاص وإرادة، كإيمان وإخلاص وإرادة أولئك فيأتي النصر الشامل بإذن الله العلي العظيم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
كيف نوظف مدلول الآية الكريمة:﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؟ أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الله تعالى لا يغير ما بقوم سلبا أو إيجابا حتى يقع منهم تغيير من حال إلى حال، فإذا كان التغيير سلبيا بمخالفة نظام الشرع، حدث المكروه، وإذا كان التغيير إيجابيا بالارتقاء في سلم التقوى والفاعلية الخيرية حدث الانتصار والتقدم والازدهار. وعلى المؤمن أن يميز بين التغيير الإرادي التي يتلخص في اتباع الأسباب، ـ ثم حسن التوكل على الله، لأن مسبب الأسباب دائما هو الله العلي الحكيم. فليس كل العلماء عبر الزمان الذي ذكرناه، ولا كل الحكام، ولا كل الناس كانوا خاطئين، وذلك مثل واقعنا اليوم بالذات ولا كلهم كانوا مصيبين، فإن المسلمين مُبْتَلُون في فلسطين والعراق واليمن وسوريا وبلدان كثيرة، ولا يتحمل الذنب جميعهم، إنما المحاسبون والمعاتبون هم الذين يفسدون، والذين لا ينهونهم عن الفساد، والذين هم قادرون على الإصلاح ولا يصلحون. قال موسى عليه السلام لأخيه هارون ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(الأعراف:142)
فما هي عوامل القوة الثقافية الذاتية على المستوى الفردي، كيف ينهض ويفك قيود الرتابة والتقليد والكسل والعجز، وينطلق نحو المستقبل، بما يتزود به من المواعظ التاريخية والحكم والعبر والتجارب، التي يجب أن يطلع عليها عند الصالحين؟ وكالطالب، كيف يجدد في نفسه القابلية، وطريقة التلقي والبحث والاستعداد والمذاكرة، ليتغير من طالب مُقَلِّدٍ يحفظ المطبوعات، إلى باحث ناظر مستبصر مبتكر يشق طريقه بالبحث والاكتشافات، على خطى الخليل بن أحمد الفراهيدي، أو المرتضى الزبيدي، أو الحسن بن علي ابن سينا، أو الحسن بن الحسن ابن الهيثم، أو جابر بن حيان، أو محمد بن محمد الإدريسي، أو محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، أو محمد بن جابر بن سنان البتاني، أو أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، أو محمد بن عبد الله لسان الدين بن الخطيب، أو خلف بن عباس الزهراوي، أو علي خطى بن أبي الحزم القَرشي الدمشقي ابن النفيس، وغيرهم كثير من الباحثين والمبدعين في شتى العلوم والمعارف، وبالمناسبة فمن جملة عوامل القوة الثقافية عند الطالب دراسة سير هؤلاء الأعلام، وأمثالهم من العلماء الحكماء المصلحين شرقا وغربا، الذين كانت لهم عشرات بل مئات البصمات في التاريخ. وقبل الطالب كيف يغير الأستاذ ما بنفسه وينتقل من مجرد موظف، إلى عالم باحث في ميدان تخصصه، ومن مجرد راو يملي معلومات على الطلبة، كما تلقاها إلى مُفَكِّرٍ مُنَظِّر، يُؤَصِّل المعلومات، ويحقق المسائل والنظريات، ولا يتوقف دوره عند تقييم طلبته، ليخبرهم بأن النجباء منهم نجحوا والقاصرين غير النبهاء ظلوا على حالهم كما جاؤوه؟؟ بل التغيير بالنفس أن يصبح الأستاذُ موجها مرشدا يوجه النجيب كيف يصبح عالما، ويوجه المتخلف القليل الخبرة ويُمَكِّنُه من التنور الذهني، وامتلاك الأدوات والآليات التي يَحُلُّ بها ألغاز العلم والاكتشاف، ويحسن مستواه.
وكيف يغير الحاكم الرئيس، والملك، والوزير والمستشار، ما بأنفسهم السياسية، ويخرجونها من أبراجها العاجية، أو قصورها الحجرية، وقلاعها الحديدية، حيث هي لا تعرف إلا الأنا، فكيف يغير هؤلاء ما بأنفسهم ويخرجونها مما فيه إلى رحاب حقيقة المسؤولية التي توقفهم يوم القيامة أمام الميزان، كيف يخرجونها إلى فضاء القضية الكبرى إلى حمل الأمانة كاملة وأدائها إلى أهلها، ومن أجل إعداد الجواب لسؤال يوم الحساب، والسؤال: أين حقوق الرعية، أيها الراعي، أين حقوق الأمة أيها الإمام؟ أين واجب كلمة الحق أيها القاضي، والمفتي، أين واجبات الوزارة أيها الوزير؟؟؟ آه نعم، تريد أن تتوب وتتعلم، فعلينا وعليك أن نتعلم من سياسة الأنبياء عليهم السلام، ومن سير الملوك الصالحين كذي القرنين، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من الصالحين المصلحين. فالبداية بهذه الخصال العلاجية العملية.
1 ـ التخلص من كل ما نعلم أنه ليس من حقنا، أن يكون مرتبنا ونصيبنا من المال العام كواحد من المواطنين لا أكثر. 2 ـ أن نضحي في سبيل تقديم وإنجاز كل الخدمات الضرورية، لكل فرد من أبناء الوطن، في حدود دوائر المسؤوليات، وعلى مستوى مهامنا. 3 ـ إنجاز العمل مائة بالمائة، بإخلاص وصدق وإتقان. 4 ـ أن ندرب أنفسنا عمليا على الرباط في سبيل الله إعدادا وإنجازا لما هو مطلوب منا، ولنعلم أن الرباط أنواع كثيرة، ومنه: الرباط في الصلاة، والجهاد، وحراسة الحدود، وفي معالجة المرضى، والسهر على خدمة الوالدين. ولكن رباط التغيير أعني به: التضحية بالوقت والمال والاجتهاد والصبر في مجال الوظيفة الخاصة لتطويرها. كل ما في هذا المقال مقدمة لبحث واسع لا يكفيه جُهْدُ واحِدٍ، ولكننا نجود بما نملك، وما التوفيق إلا بالله العلي الحكيم.