مساهمات

سيكولوجية الكيان الصهيوني في البحث عن الاعتراف

د. كمال محمد/

إنّ محتلا لأرضٍ لا يشعر بملكيتها ولا يؤمن بها ما لم تعترف له الطبيعة كلّها بحقه في ملكيتها ولن تعترف له الطبيعة أبدا لأنّها صادقة لا تكذب. كذالك حال المحتل الصهيوني، لو كانت لهم دولة حقا وصدّقوا بملكيتها لما لهثوا وسعوا جاهدين وراء إعتراف و تطبيع الدول دولة بعد دولة وتذكير العالم ,عند كل محفل, بأنّهم دولة لها الحق في العيش بسلام كأنّهم شعب الله المختار حقا وهم يُنكّلون بالفلسطنيين، أصحاب الأرض الحقيقيون, بإخراجهم من بيوتهم قسرا وتقتيلهم بأعتى أسلحة الدمار الشامل حِقدا!
لا شك أن الجانب النّفسي لهذا السعي الحثيث لنيل إعتراف الآخرين ما هو في حقيقة الأمر إلاّ عدم إعتراف بالذات نفسها. فالباحث عن الشيء عند الآخرين يفتقده عنده لا محالة. فعلى سبيل الميثال، إن كنت تملك شيئا ما حقا، فليس لك حاجة في أن تذكّر النّاس بأنّك تملكه وأنّه ملكيتك وما دمت تفعل هذا في كل مرة فمعنى ذالك أنّك تُشكّك في ملكيتك له أو لا تملكه وقد تكون سرقته كما سرق الكيان الصهيوني أرض فلسطين الحبيبة! ستظل متلازمة عدم الإعتراف بالذات قائمة عند المحتل ما دام فيه ولو دولة واحدة لا تعترف بالكيان الصهيوني كدولة.
إنّ السعي الحثيث من طرف الصهاينة وراء نيل إعتراف الدول وتطبيعها ليس بالأهمية الكبرى في المجال الإقتصادي كما يروج له البعض؛ وإذ يسمح لهم، فعلا، هذا التطبيع والاعتراف بفك العزلة الإقتصادية خاصّة في الجوار العربي العدو التقليدي للاحتلال والصديق الحالي. إنّما تكمن أهميته الكبرى في الجانب النفسي لدى المحتلين المستوطنين. فكلّما طبّعت دولة أو إعترفت بالكيان الصهيوني أخرى وزاد مستوى الطمأنينة والأمن وزاد مستوى الإحساس بالملكية لدى المحتلين؛ وما الملكية الحقّة في نهاية المطاف إلاّ إعتراف الكل بهاته الملكية! فالملكية حقيقية ما لم يوجد من ينازع ويقدح فيها وعندها يُشك في أمرها أصلا. كذلك حال ملكية المحتل الصهيوني ليست حقيقية لوجود من لا يعترف بها.
إنّ التطبيع الاقتصادي والثقافي والعلمي والرياضي يصب كله في تحسين الجانب النفسي لدى المحتلين المستوطنين فيصدّقوا ملكيتهم لفلسطين. فممارسة التجارة مع المحتل تجعله يصدّق أكثر بأنّه يملك دولة. فإذا بِعتك شيء، فأنا أملكه حتى ولو سرقته لأني قبضت ثمنه بعد بيعه، أي ملكته حقا. ولو قاطعنا المنتجات الصهيونية الناتجة من الأراضي المحتلة، سيُشعر هذا المحتل بأنّه لا يملك هذه الأرض لأنّه لا يستطيع بيع منتوجاته المسروقة. فتعامل الدول مع الكيان الصهيوني سواءا إقتصاديا أو ثقافيا أو علميا أو رياضيا ما هو في حقيقية الأمر إلا إعتراف بوجود هذه الدولة المسخ بل و يُنسِي المحتل بأنه سارق، ومن ثم يزيد هذا من مستوى تصديقهم بملكية الأرض المغتصبة. وعلى العكس من ذالك، فإنّ المقاطعة تذكّرهم بسرقة الأرض ومن ثم ينقص مستوى تصديقهم بملكية الأرض وحينها ينقص مستوى الإحساس بالأمن. فغايتهم الإعتراف أكثر من نفع مختلف النشاطات وإن كانت تصب كلها في هذه الغاية. ففي هذا السياق يشعر المحتل بملكيته لفلسطين وُصدِّق بهذه الملكية بالممارسة (Acting or practicing). إنّ تصرف الإحتلال الصهيوني تصرف الدول يجعله يصدّق بأنه دولة حقا، وما الدولة في نهاية المطاف إلا تلك التي تسلك سلوك الدول!
إنّ السارق والمغتصب يحتاج إلى شاهد زور يعترف له بملكية المسروقات أو إلى من يشتريها منه. فإنّ كان المسروق الأرض المقدسة فلسطين، فإنّ المحتل يبذل كل ما في وسعه للمحافظة على هذا المسروق الثمين، بل و يبذل الغرب الصهيومسيحي الإمبريالي كلّ ما في وسعه للحفاظ على هذا الكيان السرطاني نكاية في الخلافة الإسلامية فلا تقوم لها قائمة. إنّ الإنسان لا يكذب على نفسه، فالمحتل الصهيوني يعلم قبل الجميع أنّه محتل لأرض فلسطين لذالك يسعى جاهدا لكسب إعتراف الدول حتى يصدِّق نفسه بملكية فلسطين إن رأى ذالك واقعا معاشا. فإن تحصّل على إعتراف الدول، وتطبيعها ومن ثم عقْد مختلف الصفقات وممارسة كل النشاطات التي تمارسها الدول الحقيقية، سوف يجعل هذا المحتل يصدّق أكثر فأكثر بأنّه يملك دولة بل ويؤمن بها ويموت لأجلها ولو من وراء جدر!
إنّ أي سلوك للمحتل الصهيوني من تطبيع و بحث عن مكان بين الدول في مختلف المحافل والهيآت والمنظمات الدولية ما هو في حقيقة الأمر إلاّ بحث عن إعتراف مفقود في ذاته الصادقة.
إن سياسة الكيان الصهيوني في البحث الدائم عن الإعتراف والتطبيع العربي لا تتوقف أبدا ما دام فيه شعوب ودول لا تعترف به. فالسارق لا ينام حتى يُقِر له العالم بأنه صاحب الملكية. وبعد نجاحه في تطبيع علاقاته مع بعض الدول العربية المتصهينة الذي إحتاج لعمل دؤوب وماكر خلال عقود من الزمن، ها هو ذا الكيان الصهيوني المحتل يُحرز عضو مراقب في الإتحاد الإفريقي بعد سعي حثيث طال أكثر من عقدين! رغم عدم إنتماء المحتل جغرافيا لأفريقيا نقصد فلسطين. هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ نعم، طبعاً لأنّ وجود مقعد له في منظمة دول الإتحاد الإفريقي تجعله دولة، إنّها الدولة بالممارسة: Acting as a state makes you a state!
إنّ عدد دول الإتحاد الإفريقي 55 دولة منها 46 دولة مطبّعة مع الكيان الصهيوني. فحصول المحتل على مقعد مراقب في هذا الإتحاد يمنحه الطمأنينة والراحة والإحساس بالنصر على الذات المهزوزة والشعور بالإنجازات ويضفي مصداقية أكبر على ملكيته المسروقة ويرسل رسائل إيجابية إلى داخل الإحتلال و المستوطنات بأنّ لكم دولة تحترمها دول الجوار وتسعى لصداقتها أكثر دول العالم ومنها التي كانت معادية بالأمس، ويرسل كذلك رسائل إلى دول التطبيع، أنّهم ليسوا نشازا وأنّ الدول هي الأخرى تعترف بنا فلستم وحدكم. إنّ هذه العضوية ستمكن الكيان الصهيوني من تنفيذ مخطاطته الماكرة التي تصب كلّها في القضاء على دول الممانعة وترويضها وإضعافها. بعد هذه العضوية، سيقترب المحتل أكثر فأكثر إستخبراتيا وأمنيا و هذا أهم إهتماماته فغايته إضعاف كل دولة نبيلة مناهضة للتطبيع المخزي. فهو موجود في أوروبا وفي أسيا وفي أمريكا و في الخليج العربي وها هو الآن يضع قدما نتنة أخرى بإفريقيا دون حياء. كل هذا الوجود والإعتراف الممنهج علّه ينسيه سرقته واحتلاله البغيض فيرضى عن نفسه ليطْمئِن وتزهو نفسه فوق جماجم الشهداء حين من الدهر حتى إذا جاء وعد الآخرة جاء الله بهم لفيفا.
إنّ نشوة المحتلين والمستوطنين الصهاينة سوف تبلغ ذروتها عندما يطلب المحتل يوما ما العضوية في جامعة الدول العربية! فهو الإعتراف الأخير، فلا إعتراف بعد إعتراف صاحب الملكية الحقيقية لفلسطين وهم العرب والمسلمون، عندها تصدّق الطبيعة أيظا أنّ الصهاينة يملكون أراضا لكنّها تظل تسمى فلسطيـــن!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com