مِنْ روائع الأخلاق…خُلُق التواضـــع

د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عياض– رضي الله عنه– قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- 🙁 إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ).
هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
إنَّ التواضع صفة محمودة وخُلُق اجتماعي كريم دعا إليه الإسلام وجعله قرين الإيمان، وحثَّ عليه رسولنا- صلّى الله عليه وسلّم -؛ لأنه يزرع المحبة وينشر المودة كما جاء في الحديث السابق.
ومن المعلوم أنّ ديننا الإسلامي الحنيف يقوم على التواضع، ويمقت التَّكبّر، فالتواضع خُلق المسلم المؤمن، ويجب أن يكون لله عزَّ وجلَّ، أي تذلُّلاً وانقياداً وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، حيث يرفع الله سبحانه وتعالى قدر المتواضعين كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (…وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ).
وإذا تدبَّرنا أحوال النبي – صلّى الله عليه وسلّم –وصحابته الكرام – رضي الله عنهم أجمعين-، وجدناهم يضربون أروع الأمثلة في التواضع لله سبحانه وتعالى.
النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مُتَواضِعاً
عند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة فإنّنا نلمس التواضع في أمور حياته- صلّى الله عليه وسلّم – كافَّة، فقد كان – عليه الصلاة والسلام- أبلغ المتواضعين تواضعاً، وبتواضعه هذا استطاع أن يملك قلوب الناس، وكان – صلّى الله عليه وسلّم – مُتواضعاً في كلّ شيء، يلبس من اللباس ما خَشُن، ويأكل من الطعام ما حَضَر، ويُجالس الفقراء ، ويُحِبّ المساكين، ولا يُقابل أحداً بما يكره، وكان يخدم بيته، ويرقع ثوبه ، ويخصف نعله، وكان يُرَدِّد دائماً: (… إِنَّما أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ).
* تواضعه – صلّى الله عليه وسلّم- في أمور معيشته : يروي لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- موقفاً من تواضعه وَرِقَّة شمائله- صلّى الله عليه وسلّم – ترك أثراً في نفسه حتى أبكاه، يقول- رضي الله عنه- وهو يَصِفُ حاله عند دخوله على رسولنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – : (… وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبوراً، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبهِ ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: « مَا يُبْكِيكَ ؟ « فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ: « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟).
* تواضعه – صلّى الله عليه وسلّم- لِكبارِ السِّنِّ : عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما- قالت: (فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: هَلاَّ تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إلَيْهِ ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ)، وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ …).
* تواضعه – صلّى الله عليه وسلّم- للمساكين : عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ قال: رَأَى سَعْدٌ – رضي الله عنه- أنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فقال النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-:(هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ).
وكان من عَظِيم تواضعه – صلّى الله عليه وسلّم-؛ أنَّ الأَمَةَ قد تأخذُ بيدِهِ فيمضي معها لِيَقضيَ لها حَاجَتَهَا أو يستمعَ إلى شَكْوَاهَا؛ كما جاء عن أنسِ بنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه- قال: (كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ).
فعلينا أن نقتدي برسولنا- صلّى الله عليه وسلّم – في التَّحَلِّي بهذا الخُلُق الإيماني الرفيع.
أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – مُتواضعاً
هَا نحن نرى أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- (حيث كانت له غَنَمٌ تَروحُ عليهِ ، وَرُبَّمَا خَرجَ فِيهَا بنفسهِ فَرَعَاهَا، وَرُبَّمَا كُفيها فَرُعِيَتْ لَهُ ، وكان يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أغنامَهُم ، فلما بُويعَ له بالخلافةِ قالت جاريةٌ من الحيِّ: الآنَ لا يَحْلِبُ لَنَا مَنَائحَ (أغنام) دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بَلَى لَعَمْرِي لأَحْلِبَنَّهَا لَكُم، وإني لأرجو ألاَّ يُغَيِّرَنِي مَا دخلتُ فيه عن خُلُقٍ كنتُ عليه ، فكان يَحْلِبُ لَهُنَّ).
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وخولة بنت ثعلبة
ذكرت كتب السيرة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خرج ذات ليلة من المسجد ومعه الجارود بن المعلَّى فرأى خولة في الطريق ، فقال: السلام عليك يا أمَّ عامر، فردَّت عليه السلام ، ثم قالت: هيهات يا عمر! عهدتك وأنت تُسمَّى : «عُمَيْراً « في سوق عكاظ، ترعى الضأن بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سُميِّت:»عمر» ، ثم أصبحت أمير المؤمنين ، فاتَّقِ الله في الرَّعيّة، واعلم أنه من خاف الوعيد ، قَرَّب الله عليه البعيد؛ ومن خاف الموت ، خشي الفوت ؛ ومن أيقن بالحساب، خاف العذاب، فقال لها الجارود : قد أكثرتِ أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال له عمر: دَعْها، أمَا تعرفها؟ هذه خولة، التي سَمِعَ الله قولها من فوق سبع سماوات، وعمر أحقُّ ، والله، أن يسمع لها ، ولم يَدَعْها عمر – رضي الله عنه -حتى قضى حاجتها ، ثم كانت هي التي انصرفت عنه، وقال عمر لِمَنْ معه : والله ، لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفتُ عنها، إلاّ أنْ تحضر صلاة الفجر ، فأصلِّيها ثمّ أرجع إليها حتى تقضي حاجتها ، رحم الله عمر الذي يتقبَّل النُّصح ، ورحم الله خولة الناصحة.
هكذا كان صحابة رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قِمَّةً في التواضع وهضم حظوظ النفس، مقتدين في ذلك بالنبي – صلّى الله عليه وسلّم –، لذلك علينا أن نسير على هذا النهج القويم ، ونتحلَّى بخُلُق التواضع والتآلف.
التواضع …سبب الرِّفعة في الدنيا والآخرة
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ).
إِنّ التواضع خُلُق كريم من أخلاق المؤمنين، ودليل محبة ربِّ العالمين ، وهو الطريق الذي يُوصل إلى مرضاة الله وإلى جنته، وهو عنوان سعادة العبد في الدنيا والآخرة، وهو السبيل الذي يُقَرِّبك من الله تعالى وَيُقَرِّبك من الناس، ويجعلك من الفائزين بحفظ الله ورعايته وعنايته، وهو الطريق لحصول البركة في المال والعمر، وهو السبيل للأمن من عذاب الله يوم الفزع الأكبر، وهو دليل على حُسن الخُلق ، فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ ( أَنَّ « عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيز» أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ فَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ ، فَقَالَ الضَّيْفُ : أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَهُ ، قَالَ: أَفَأُنَبِّهُ الْغُلامَ ؟ فَقَالَ : هِيَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا ، فَقَامَ وَمَلأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا ، فَقَالَ الضَّيْفُ: قُمْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : ذَهَبْتُ وَأَنَا عمر وَرَجَعْتُ وَأَنَا عمر مَا نَقَصَ مِنِّي شَيْءٌ ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا.
ومن المعلوم أنه ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله وزاده عِزًّا وشرفاً ، وأثبت له في قلوب العباد منزلة سامية من المحبة والاحترام، وهذا أمر مُشَاهد محسوس كما ورد في قصة أمير المؤمنين
عمر عبد العزيز – رضي الله عنه – السابقة، فإنَّ العباد ينفرون من المُتَكَبِّرين ولا يألفون المُختالين المُعجبين، لذلك فقد حذَّرنا النبي – صلّى الله عليه وسلّم- من الكِبْر وأمرنا بالابتعاد عنه حتى لا نُحْرَمَ من الجنة ، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – قال : ( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ ).
أَلاَ ما أعظمَ الإسلام وما أَجَلَّه!، حيث يدعو المسلمين إلى التواضع ، فعباد الله المتواضعين تبقى نفوسهم راضية مطمئنة ، وقلوبهم بالإيمان واليقين عامرة ، وصدورهم من الغشِّ والحقدِ خالية ، وأمورهم مجتمعة غير مُشَتَّتَةٍ ، غِنَاهُم في نفوسهم، لا ينظرون إلى ما في أيدي الناس، ولا يمدّون أعينهم إلى متاع الحياة وزينتها ، ولا يحسدون أحداً على ما آتاه الله من فضله، فالتواضع وسيلة الاستقرار والهدوء، وأساس الاطمئنان والعيش الرغيد، فلا تَطِيبُ الحياة لأحدٍ إلا في الجنة؛ لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com