في رحاب الشريعة

في ذكرى مولد رسول الإنسانية/ يوسف جمعة سلامة

يستقبل المسلمون في هذه الأيام شهر ربيع الأول، شهر المولد الشريف، مولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سيد البشرية، فإذا ما أهلّ هلال شهر ربيع الأول طافت على القلوب ذكرى ميلاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ذلك النبي العظيم الذي بعثه الله بالهُدى والنور والرحمة والخير والبركة على الإنسانية جمعاء، ومن المعلوم أن مولده – صلى الله عليه وسلم – نعمة عظيمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الناس أجمعين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}(1)، فالله سبحانه وتعالى امتنَّ على عباده ببعث نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، فالواجب على العباد أن يشكروا الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة الكبرى؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يهديهم إلى الصراط المستقيم كما في قوله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(2)، وبسبب هذه النعمة فإن الله سبحانه وتعالى لن يُعَذِّب الإنسانية بما كان يُعَذِّبهم به قبل مولده – صلى الله عليه وسلم – كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(3)، فوجود رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رحمة وأمان من عذاب الله، فإذا ما ذهب الأمان الأول بقي الأمان الثاني إلى يوم القيامة، “ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ “، فهذه دعوة إلى الأمة بوجوب التوبة والاستغفار من الذنوب والمعاصي والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.

حاجة البشرية إلى رسول الإنسانية 

لقد صور أمير الشعراء أحمد شوقي – رحمه الله – حال العالم قبل بعثته – صلى الله عليه وسلم – تصويراً صادقاً حكيماً، حيث كانت عبادة الأصنام منتشرة، كما كان الظلم واقعاً ملموساً بين النّاس، وتنشب الحروب على أتفه الأسباب، وفارس والروم كانتا تعيثان في الأرض فساداً، والناس كالحيتان في البحر يفتك أقواهم بأضعفهم، ذكر ذلك – رحمه الله –  في قصيدته المشهورة “نهج البردة” فقال:

أَتَيْتَ والناسُ فَوْضَى لا تمرُّ بهم           إلا على صَنَمٍ قد هَامَ فـــي صَنَــــمِ

          والأَرْضُ مَمْلُوْءَةٌ جَوْراً، مُسَخَّرَةٌ           لِكُلِّ طَاغِيَةٍ في الخَلْقِ مُحْتَكِـــــــــم

فعاهلُ الرومِ يطْغَى في رعيتــــه           وعاهلُ الفرسِ مِنْ كِبْرٍ أصمّ عــــــمِ

وخلال تلك الظلمات التي سادت الإنسانية، جاءت بعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات القهر إلى نور العدل، فالرسول- عليه الصلاة والسلام- جاء رحمة للعالمين، وكما قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر: – رضي الله عنه – ( إنّ الله قَدْ ابْتَعَثَنَا لِنُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ عِبَادَةِ العِبَادِ إلى عِبَادَةِ ربِّ العِبَادِ، وَمِنْ جَوْرِ الأدْيَانِ إلى عَدْلِ وَسَمَاحَةِ الإسْلاَمِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إلى سَعَةِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ).

 

عالمية الرسالة الإسلامية

إن الرسالة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- رسالة عالمية عامة، وعموم الرسالة الإسلامية جاءت به آيات وسنن، ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن كل ما نزل يفيد عموم الرسالة كان في العهد المكي.

ولأهمية ذلك نقول: إن العهد المكي كان عهد اختناق الدعوة، وكان الإسلام يعاني من جبروت الوثنيين، فكان القرآن يتنزل بهذه الرسالة ليست لِقُطْرٍ مُعَيّن بل للبشرية كلِّها، ولو أن الآيات التي تتحدث عن عموم الرسالة تنزلت في العهد المدني أو أواخر أيام الرسالة؛ لقال بعض الناس: نبي نجح في أن يفرض نفسه على قومه في شبه الجزيرة العربية، فأغراه ذلك على أن يُوَسّع نفوذه، لكن والحمد لله فإن عموم الرسالة وعالمية الدعوة تأكدت منذ اللحظات الأولى للدعوة في مكة المكرمة من خلال السور المكيِّة، حيث نجد ذلك واضحاً في آيات عديدة في القرآن الكريم، منها:

في سورة القلم المكية:{وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}(4).

وفي سورة الأنبياء المكية:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(5).

وفي سورة الفرقان المكية:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}(6).

وفي سورة سبأ المكية:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(7).

وفي الأحاديث الشريفة نقرأ الأحاديث التي تبين أن الإسلام سينتشر في جميع أرجاء المعمورة، كما قال – عليه الصلاة والسلام- 🙁 لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ “يعني أمر الإسلام” مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)(8).

فالرسالة الإسلامية العالمية التي حمل لواءها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ستبقى ما بقيت الحياة، وستنتشر أنوارها شرقاً وغرباً، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(9)

ويوم يزول الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هناك دنيا؛ لأن الشمس ستنطفئ، والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوي العالم أجمع.

الرسول r ووحدة الأمة

ونحن نتفيأ ظلال هذه الذكرى الطيبة فإن الواجب على المسلمين جميعاً أن يكونوا أمة واحدة قوية متماسكة؛ حتى لا يكونوا لقمة سائغة للآخرين، فالواجب علينا أن نستجيب لدعوته – صلى الله عليه وسلم – وألا نتفرق وألا نتشرذم،  وألا يحمل أحدنا حقداً على أخيه، وأن نتحابب فيما بيننا، وأن نكون أمة واحدة، فسرّ قوتنا في وحدتنا وإن ضعفنا في فرقتنا وتخاذلنا، فالوحدة أساس كلّ خير في دنيا الناس وآخرتهم، وإن الفرقة أخطر الآفات التي تقضي على سعادة الناس وترديهم في مهاوي التهلكة، فقد أكد ديننا الإسلامي على أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(10)، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(11)، وقد ضرب رسولنا – صلى الله عليه وسلم – للمؤمنين مثلاً يُعرفون به ويحرصون عليه، في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )(12)، وبقوله أيضاً:( الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا )(13)، أولئك هم المؤمنون حقاً، الذين يتعاونون فيما بينهم على البرِّ والتقوى، فالإسلام هو الضمان الوحيد لوحدة هذه الأمة، وهو الضمان الذي يُبقي عليها، فلا تتفرق ولا تتشتت ولا تتشرذم، ولا يُعادي بعضها بعضاً ولا يقتل بعضها بعضاً.

إن شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أحوج ما يكونون إلى الوحدة والمحبة ورصّ الصفوف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها قضيتنا الفلسطينية والمنطقة العربية والإسلامية.

لقد كان ميلاد رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – نقطة تحول هائلة في تاريخ البشرية، وفاتحة خير على الدنيا بأسرها، وحين صافح سناه الوجود أشرقت الأرض بنور ربها، وتهاوت قلاع الشرك والوثنية، وارتفعت راية التوحيد وانتصر الحق وزهق الباطل، ولم يعرف التاريخ شخصية أبعد أثرًا في النفوس وأعمق تأثيرًا في القلوب من محمد – صلى الله عليه وسلم –، الذي نال منزلة دونها كلّ منزلة، واستأثر بحب يتضاءل أمامه كلّ حبٍ سوى حبّ الله –سبحانه وتعالى-، ونحن في ذكرى مولدك يا سيدي يا رسول الله: نشهد أنك قد بلغتَ الرسالة، وأديتَ الأمانة، ونصحتَ الأمة، فجزاك الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا يا رب من حوضه الشريف شربة
ماء لا نظمأ بعدها أبداً، آمين…آمين…يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش:

1- سورة آل عمران الآية (164).

2- سورة الشورى الآية (52).

3- سورة الأنفال (33).

4- سورة القلم، الآية (52).

5- سورة الأنبياء، الآية (107).

6- سورة الفرقان، الآية (1).

7- سورة سبأ، الآية (28).

8- أخرجه أحمد.

9- سورة الصف، الآية (9).

10- سورة المؤمنون الآية (52).

11- سورة الأنبياء الآية (92).

12- أخرجه البخاري.

13- أخرجه الشيخان.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com