على بصيرة

يا تونس… !

أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

ماذا ألمّ بكِ، يا شقيقة الجزائر، حتى لجأت إلى تجميد المؤسسات، وإلغاء الحصانات، ومساءلة الشخصيات، وهاهو العالم كله، بسبب ذلك حائر؟
ماذا دهاكِ، يا درة البلدان، ويا خضراء السهول وجميلة السواحل والشطآن، ويا طيبة المعشر، ويا دمثة خلق الإنسان؟
لقد أصابتك عين لامّة، ولسعتك يدٌ سامّة، فحدثت الطامة، وها أنت في عزلة تامة، تحيرت فيها الخاصة والعامة.

رُحماكِ يا أيتها الأيقونة، بحق الصادقية والزيتونة، وحق صفوتك الثقافية، والفنية الميمونة.
لقد كنتِ، يا حلقة الوصل، بين المشرق والمغرب، مضرب المثل، في المزج بين التحديث والتأصيل، والتجسيد الحضاري، القائم على التسامح، وحسن التعليل.
فما هذا الذي يحدث لتونس اليوم؟ أهي نكسة الإنسان التونسي، الذي طحنه الوباء، وأنهكه الغلاء، وأحاط به الشقاء، فسقط ضحية أنواع من البلاء؟ أم أنها يد شيطانية خارجية، هالها ما حققته تونس في مجال التنظير الديمقراطي، والتعايش السياسي، بعيدا عن التعصب، والطائفية الإيديولولجية، فبثت العقارب بين الأقارب، لتكدر المشارب؟
من المسؤول –إذن- عن كل ما يحدث في تونس؟ أهي القيادة السياسية، التي لم تحسن التقدير، فأساءت التدبير، ولجأت إلى أقسى القرارات، لإنقاذ المصير؟
أم أنها النخبة السياسية الحزبية، التي طحنتها الخلافات، وتفشت فيها نزعة الزعامات، فعمدت إلى السب، والشتم، بأقذع العبارات، ومحاولة استئصال الأصلاء البُناة، في حنين منها لما انقضى من العهد البائد، الذي انتهى وفات؟
حيّرنا –والله- أمر تونس، التي لم تعد تُؤْنِس، وإنما هي توحش كما قال شاعرها:
لعمركَ ما ألفيت تونس كاسمها ولكنني، ألفيتها، وهي توحش
أين غاب الأنس من تونس؟ ولماذا حل بدل ذلك الوحش، الذي هو مرادف للتنابز بالأحزاب، والتراشق بالنعوت السيئة والألقاب، والتواطئ مع دعاة الفتنة، وعدم الاستقرار، وأنصار الخراب.
لقد ساء هؤلاء جميعا، أن تضرب تونس أحسن المُثل في حسن التعايش السياسي، فشذت بذلك في معاملاتها، عن المصطلح المظلوم، الذي عرف «بالربيع العربي»، وما جره على الشعوب من دمع، وقمع، ومن عناء وشقاء.
إنه ليسوؤنا –والله- أن تفشل التجربة التونسية وهي المثل في علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي أخذ الحق من الظالم للمظلوم، وفي التمكين لحرية التعبير، في المؤسسات النيابية، وفي المنابر الإعلامية.
هل الذين أقدموا على إفشال التجربة التونسية، يريدون الخير لتونس، وشعب تونس؟ ألم يتعظوا بما يحدث للأباعد والأقارب؟
ومتى كان الاستبداد، منهجا لتحرير الشعوب؟ ومتى كان القهر أو الظلم، عاملا من عوامل انتصار المغلوب؟
إن ما يصيب تونس، من خير أو شر، له صداه في الجزائر، وإننا في الجزائر نتابع بمنتهى الحيرة والقلق ما يجري في البلد الشقيق، فأمن تونس، واستقرارها، هو امتداد لأمن الجزائر واستقرارها، لذلك فإن التحرك الدبلوماسي والسياسي والشعبي للجزائر هو عين الصواب، فلو سقطت تونس –لا قدّر الله- سيكون سقوطها الجسر الذي يعبر من خلاله الأعداء إلى الجزائر.
ومن يدري؟ فلعل كل هذه المحاولات التي تجري غرب الجزائر وشرقها، شمالها وجنوبها، المقصود منه تطويق الجزائر، والحد من انطلاقتها خصوصا، وقد أعلنت موقفها من التطبيع مع الكيان الصهيوني، على جميع المستويات، في السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والرياضة، وإن هذا من شأنه أن يثير حفيظة المتآمرين من المطبعين، والمتخاذلين، والعملاء المنبطحين، فضلا عن الأعداء المتربصين.
فهل ما حدث في تونس هو بمثابة فصل المقال؟ لا نعتقد ذلك، نحن نؤمن بأن الشعب التونسي الشقيق بجميع مكوناته، ومقوماته، يملك من الوعي، ومن الوطنية، ما يجعله يقف سدا منيعا ضد كل محاولات الاختراق.
فالوضع الداخلي الاقتصادي المتردي، والوضع الصحي الكارثي، يحتم على الجميع، رص الصفوف وتناسي الخلافات، والعمل على النظر بتفاؤل لما هو آت.
إن النخبة التونسية، بمختلف قناعاتها الإيديولوجية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى تناسي خلافاتها، وتجاوز حزازاتها، والالتحام حول وحدة تونس وبُناتها.
فلا مجال لأي نوع من الخطإ، على جميع المستويات، لأن أي خطإ، سيكون الثغرة التي يتسلل منها الأعداء، وإذا تمكن الأعداء، من سياسة أو اقتصاد أو ثقافة تونس، فذلك هو السرطان الذي سينهك الجسم، لا قدر الله.
إننا –يعلم الله- من موقع الحب لتونس، وطبعا من موضع الحب لأمتنا، لا نريد لتونس، أن تكون البوابة الجديدة، التي يتسلل منها أعداؤنا، إلى جسم أمتنا لينخروه.
حذار –إذن- فإن الوطن أمانة في أعناق الجميع، وليكن ما حدث لتونس، سحابة صيف لا تنفك أن تزول.
وإذا كان لنا –من موقع الأخوة الصادقة- وعدم التدخل في الشأن الداخلي لتونس، إذا كان لنا ما يمكن أن نهمس به في آذان أبناء شعبنا الشقيق، فإننا نقول لهم: إن الخلاص يكمن في الوحدة، وتنسيق العمل، وضم الجهود، فليس كالوحدة التي لا رتق فيها، سبيل إلى تفويت الفرصة على الأعداء.
فيا أبناء تونس الأشاوس !
لقد ضربتم المثل في ثورة الياسمين، فأطربتم بذلك شعوب المستضعفين، الذين رأوا في ما قدمتموه قبسا من نور التغيير السلمي، وما دمتم تملكون التجربة الناجحة فحرام عليكم أن تنتكسوا، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[سورة آل عمران، الآية 139].
نهيب بكم يا أبناء تونس، أن لا تتراجعوا، عما صممتم عليه، من بناء وإعلاء لتونس، في كنف الاستقلال الكامل، والسيادة المطلقة، والوحدة الشاملة، لتفشلوا كل محاولة تريد النيل من استقلالكم، أو المساس بسيادتكم، أو محاولة زعزعة وحدتكم.
فأعوذ بالله من السلب بعد العطاء،قفوا يا زعماء تونس، وقفة رجل واحد، حكاما ومحكومين، لتنظيم ندوة الحوار الوطنية التي ستكون ندوة الخلاص، والتي سينبثق عنها إن شاء الله، ميثاق الشرف الذي يضيء لكم الدرب، وكل من سار على الدرب وصل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com