الشدائـــــد والنـــــوازل بيـــــن حِــــرْص العامـــــل، وعَجْــــزِ الغــافــــل
أ. محمد مكركب/
لا نتكلم هنا عن النوازل الكبرى التي هي فوق قدرة الإنسان ولم يكن يتوقعها، كالأوبئة الطاعونية، والزلازل الأرضية، والبراكين النارية، والفيضانات البحرية، إنما المقصود هنا بالشدائد والنوازل، هي بعض الكوارث التي تقع ـ وكل بمشيئة الله عز وجل ـ ولكن حيث يكون السبب تقصير أو غفلة أو تهاون من قبل الناس، وتقصير من قبل المسئولين المسيرين خاصة؛ كفساد الطرق، والحرائق في الصيف، والأزمة السكنية المزمنة في بعض البلدان، حتى أصبحت مرضا فكريا واجتماعيا، ونقص الغذاء كالحليب والخبز، والدواء، والخبرة الصحية، وغير ذلك، مما ابتليت به المجتمعات المتخلفة، لتخلف وجهل المخططين بلا تخطيط، والمسئولين بلا مسؤولية، وهذه الشدائد والنوازل، أي: هذه المصائب تحدث، لأن المسؤولين والمسيرين لم يقوموا بواجبهم حق القيام، في إعداد ما ينبغي من معدات الوقاية الأصلية، التي يعلمها علماء علم العمران. وهذا هو المراد من المقال، فتهاوننا وتقصيرنا في الوقاية من كثير من الكوارث، كغمر المياه لأحياء وقرى في الشتاء، وكحريق مساحات كبيرة من الغابات في الصيف، وكحوادث المرور في طرق فاسدة، تلك النوازل التي هي بمقدور الإنسان أن يقي نفسه منها، فإذا ما وقعت شغلتنا عن القضايا الهامة، وكلفتنا مبالغ كان يمكن استثمارها في التربية والتعليم، والاقتصاد، والدفاع.
ففي كثير من الأحيان يشدنا الواقع المتردي إلى الوراء، ويضطرنا إلى النزول من سماء الفكر المستنير بشأن القضايا الكبرى للأمة، فيما ينير طريق الإنسانية نحو مستقبلها، ويجعلنا نغرق في مشكلات جزئية لا تحتاج إلى أدنى تفكير، وأقول هذا. حتى لا يلومنا القارئ، على أننا تركنا كثيرا من القضايا المصيرية الشرعية والسياسية والدولية والعلمية، والأدبية، ونتكلم عن الطرق وحفرها، والغابات واحتراقها، وأزمة السكن والصحة والغذاء. ولكن حال واقعنا جعلنا كحال من قال:{ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا.. تجاهلت حتى ظن أني جاهل} إن هذه الأمور التي قد نعتبرها هامشية، أو جزئية، أو حتى سفسافية، عند من لا يعي تأثيرها، ولا يشعر بوقْعها، فإنها كمثل حصاة في نعل الجندي المقدام وقت المعركة، فإذا تحيز إلى شجرة وقت القتال لينزع الحصاة التي تعوقه فلا يلام، وكالفارس الذي يصيبه بعض القذى في عينه، فلا يقال لهذا ولا لذلك، لم اشتغلت بحبة رمل، أو ذرة تراب.
ثم قلت لك إن التذكير بهذه النوازل، وطرائق علاجها، وتخصيص وقت للتنبيه عليها، ولو هي صغيرة الشأن في ظاهرها، فإن الهدف هو: الوقاية من نتائجها السلبية الكبيرة، فإنها تحزن العاقل الحريص على مصلحة وطنه، عندما يسمع ويرى أن أوقاتا تضيع، وأموالا طائلة تصرف في حلول الترقيع، مع أن الوقاية ممكنة ومعلومة، وأسباب تفادي الخسارة وحفظ الأموال والأوقات ميسرة ومفهومة، ولكن التقاليد تكرس الإهمال، ويظل الحال كما هو الحال، وربما يقود التغيير الارتجالي من إهمال إلى محال. فما هي الإشكاليات؟
الإشكالية الأولى: أن هذه الأزمات المزمنة، والنوازل الطارئة المتوقعة، تكون سببا في استنزاف القدرات، وإفناء الأوقات، وإشغال البال في مثل هذه المشكلات المادية، التي تُتْعِب المواطن، وتعوق تقدمه، على حساب المهام والسير إلى الأمام، في العلوم والصنائع.
الإشكالية الثانية: تكرار الإسراف والتبذير، على حساب المشاريع الحضارية الكبرى إن كانت. خذ هذا المثال الذي نلام عندما نتكلم عنه، وهو {الزحام المروري في الطرق والشوارع، داخل وخارج المدن} وهو علامة من علامات التخلف والعجز، بل والإهمال المقصود. حتى صارت المسافة التي تقتضي عشرين دقيقة، أصبحت تقتضي ستين أو تسعين دقيقة!! مع أن الحلول العلمية المنطقية متوفرة.
الإشكالية الثالثة: خَدْشُ القيمة السياسية للوطن: كيف يتعطل السير وسط مدينة، أو طريق عام، عندما تنزل أمطار عادية جدا ومتوقعة، ولكن السبب سوء التخطيط، وسوء الإصلاح، وسوء التسيير. ومثال ذلك: كيف يستهلك رجال الحماية المدنية جهدهم، وأحيانا يصابون، ويضحون بأنفسهم في إطفاء الحرائق في الصيف، والكل يعلم أن المكان الفلاني معرض للنار، والطريق الصالح لسيارات وعربات الإطفاء، غير مهيأ، ومعدات الوقاية غير متوفرة. فأين التوجيه السياسي الذي نَظَّرَهُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمل به كثير من غير المسلمين في بلدانهم.كان عمر بن الخطاب، يمشي في الأسواق ويطوف في الطرقات يتفقد أحوال الرعية، ويقضي بين الناس في قبائلهم، ويعلمهم في أماكنهم، ويخلف الغزاة في أهليهم. وروي عنه أنه قال:{لو أن بغلة عثرت بأرض العراق لخشيت أن يسألني ربي عنها، وروي: أنه قال: (لو مات جمل ضياعا على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه)}[ كتاب: المبشرون بالجنة. لعبد الستار الشيخ] ومن أسباب ضياع الأمور توظيف عمال ومسيرين لا يقومون بالواجبات يقبضون المرتبات، ويضيعون الأمانات. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {من استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين}[ابن الجوزي]
ونأخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كنموذج، لأنه كان يفري فريه بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو اقتدى به الخلفاء والرؤساء لكانوا خلفاء ورؤساء حقا، ولأنه كان يستعمل أساليب سياسية تحقق العدل والانضباط. وهو صاحب المبدأ في المحاسبة:{من أين لك هذا} فلم يترك أيدي الولاة والطامعين ينهبون المال العام. فكان رضي الله عنه يقول للولاة والمسئولين: من أين لك هذا؟ وكان يقول للفقراء والمحرومين: من أين ليس لك هذا؟ وكان هذا عنده أهم، أي كانت عنايته بالفقراء أشد، وكان ناجحا نجاحا كبيرا في إدارة الدولة، ليس فقط لزهده، وعدله، وعلمه، وكل ذلك من صفاته ومن أسباب قوته، ولكن كان أيضا يجمع العلماء حوله ويسمع لهم، ويعتني بالشباب ويوظفهم ويشجعهم، وكان من أكبر عنايته بالرعية: التربية والتعليم. فكان يقول:{إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم، وليأخذوا أموالكم، ولكني أستعملهم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي، ليرفعها إلي، حتى أقصه منه}
وكان رضي الله عنه لا يحابي أحدا من الرعية على حساب الآخرين، يقول كلمة الحق، ويحكم بالحق، على الوزير، والغني، وزعيم القوم، ولم يكن يُقَرِّب أقاربه لمناصب، أو لمكاسب، ولا يميزهم بمزايا، وإنما كان يقرب صاحب العلم والعمل والإخلاص مهما كان. وبهذا لم تكن الشدائد والنوازل والكوارث رغم كثرتها، تتغلب عليه، وتذكرون عام الرمادة، وما أدراك ما عام الرمادة، فكان يجوع كما يجوع أفراد الرعية، ويبيت يحرس بنفسه السوق، حفظا للأمن والسكينة، ويخدم رعيته بنفسه، ويبكي خوفا من الله على رعيته، ولم يكن يكتفي بالخطب، والقرارات، لذلك وفقه الله تعالى، ونصره.