سبـــق علماء الإســــلام في العلـــم والإيمــان فـــخر الديـــن الـــرازي نمــــوذجــا
د/ خميس بن عاشور/
العلوم الكونية والتجريبية عند علماء المسلمين هي وسيلة من وسائل ترسيخ العقيدة الإسلامية والاحتجاج البرهاني لإثبات توحيد الربوبية خاصة أو ما يسميه علماء الكلام بتوحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد العلمي، وهو المنهج الذي استخدمه -على سبيل المثال- فخر الدين الرازي[544ه/606ه] وكثير من العلماء الموسوعيين الذين تبحروا في علوم الشريعة والعقيدة وكذلك العلوم الرياضية والكونية والتجريبة وغيرها.
إن المعرفة العلمية هي نتاج تراكمات فكر المجموعة الإنسانية عبر القرون ،وقد أفلح علماء وفلاسفة عصر النهضة الأوروبية في استغلال تلك التراكمات على الرغم من أن أكثرهم لا ينسبون الفضل لأهله باستثناء المنصفين منهم ممن نهل من معارف المسلمين وأشاد بفضلهم في الميادين العلمية والإنسانية والتشريعية والفنون وغيرها ..فليس يصح نسبة الفضل إلى من قطف الثمار فحسب، ونضرب مثالا على ذلك بقوانين الحركة (الميكانيك) التي استطاع إسحاق نيوتن[1642م/1727م] صياغتها رياضيا فقد أشار إليها بوضوح كثيرٌ من علماء ومفسري وفلاسفة الإسلام من قبلُ، قال فخر الدين الرازي:…وَالثَّالِثُ:أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ جَائِزَانِ عَلَى كُلِّ الْأَجْسَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْجِسْمِيَّةَ وَاحِدَةٌ. وَلَوَازِمَ الْأُمُورِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا صَحَّ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ عَلَى بَعْضِ الْأَجْسَامِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّا عَلَى كُلِّهَا. فَاخْتِصَاصُ الْجِسْمِ الْفَلَكِيِّ بِالْحَرَكَةِ دُونَ السُّكُونِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. ..وقال : ..إنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَوْ كَانَ عِلَّةً مُوجِبَةً بِالذَّاتِ لَزِمَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْعِلَّةِ دَوَامُ آثَارِهَا، فَيَلْزَمُ من دوام تلك، دَوَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَوِّمَةِ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ. .. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا أَسْرَعَ مِمَّا وَقَعَ وَأَبْطَأَ مِمَّا وَقَعَ، فَاخْتِصَاصُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ..ففي كلامه هذا إشارة منه رحمه الله بأسلوب علمي أدبي لقانون نيوتن الأول والثاني : إن الجسم الساكن يبقى ساكنا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية ما ،وأن الجسم المتحرك يبقى متحركا ما لم يتعرض لتأثير قوة خارجية..وهو مايعبر عنه بقانون القصور الذاتي أو العطالة، ولكن في حيز أطر مرجعية مثالية داخل الفراغ ، وقد أشار الرازي إلى هذا الفراغ بقوله:..الْعَاشِرُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ…ولكن عمليا فإن التجارب لا يمكن أن يتوفر لها هذا الإطار المثالي وهو الفراغ فالجسم المتحرك لن يستمر في الحركة بسبب احتكاكه بذرات وجزيئات الهواء وقد يتوقف ،ولذلك وضع نيوتن قانونه الثاني الذي يتناول مسألة التسارع وما يتأثر به، وينص القانون على أن تسارع الجسم يتحدد من خلال القوى المؤثرة عليه ومن كتلته وبمساعدة هذا القانون يمكن عملياً حساب محصلة القوى المؤثرة على جسم بواسطة حساب تسارعه والعكس وفق المعادلة F=ma: حيث الحرف F يمثل القوة المؤثرة على الجسم، وكتلة الجسم يمثلها m و a يمثل تسارع الجسم كرد فعل للقوة التي أثرت عليه.. ويشير الرازي أيضا إلى قانون نيوتن الثالث : لكل فعل(قوة) مساوية ومعاكسة له في الاتجاه بقوله :.. وَالْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، وَقَعَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى جِهَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ. فَاخْتِصَاصُهَا بِالْوُقُوعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ…. فثبت بهذه الوجوه العشرة: أن أجرام السموات وَالْأَرَضِينَ مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتٍ وَأَحْوَالٍ، فَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ حُصُولُ أَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا،..1
والغرض من كل ذلك عند علماء الكلام عامة والرازي خاصة هو الاستدلال العقلي على ضرورة وجود مرجح لحركة الجسم وبالتالي خلق العالم الموجود بالفعل وهذا المرجح هو فعل الخالق عز وجل.
وفي عصرنا هذا تحاول كثير من الدوائر البحثية والإعلامية توجيه العلوم نحو غاية إلحادية تتنافى مع المقاصد السامية للعلم وهي الإيمان الذي اعتبره القرآن الكريم هو العلم نفسه ، ولذلك يرد كثيراً في القرآن الكريم اقتران العلم بالإيمان، واقتران الذين يعلمون بالذين يؤمنون. قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.[الروم:56] أي كنتم لا تؤمنون ولا تصدقون. وقال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج: 54] فالذين آمنوا هم الذين أوتوا العلم. وقال : لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [النساء:162] . وقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. [المجادلة:11] . فعطف المؤمنين على الراسخين في العلم ،وفي قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ. [الزخرف: 61] وردت قراءة أخرى: (وَإِنَّهُ لَعلَمٌ لِّلسَّاعَةِ) ، أي أمارة، وقد فرق الأصوليون بين الدليل والأمارة من حيث إفادة اليقين أو الظن، ولكن المقصود هنا أن مادة العلم في القرآن العربي المبين تدور حول الدليل والأمارة؛ حيث ذهب المحققون من أهل الأصول أنه لا فرق بين الدليل والأمارة من حيث إفادة اليقين أو الظن ..2، وهذا ما يعني أن الإيمان في الإسلام علم سواء كان عن استدلال ونظر أو عن اعتقاد فطري؛ لأن كل ذلك مطابق للواقع وموافق لنصوص الكتاب والسنة التي تصحح الإيمان الفطري بل وتجعله في الدرجة العليا منه، وفي الوقت نفسه تحث على الاستدلال والنظر العقليين لزيادة اليقين وترسيخ العقيدة، والآيات في ذلك كثيرة من مثل قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.[العنكبوت: 20] . وقوله: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. [ق: 6] . وذهب بعض المحققين إلى أن معرفة الدلائل العقلية قد تجب في حق من تساورهم الظنون وتراودهم الشكوك؛ وذلك من أجل تدعيم قاعدة الإيمان عندهم؛ فلا يلقوا ربهم إلا بقلب سليم خالٍ من الشُّبَه المهلكة .3
والعلم والإيمان بالنبوة والرسالة أساسه دليل صدق الرسول؛ وهذا الصدق قد يُعرف بأوصاف معينة، وقد يكون عن طريق المعجزة؛ فكثير من الناس دخلوا في دين الله أفواجاً عن طريق ما عرفوه من صفات الرسول صلى الله عيه وسلم الحميدة، وشرف ما يدعوهم إليه من المكارم؛ ومن ذلك ما قاله جعفر بن أبي طالب للنجاشي من أن الله بعث لهم رسولاً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعاهم إلى التوحيد وترك الشرك، وأمرهم بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهاهم عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصيام فصدَّقنا وآمنا به، واتبعنا ما جاء به من الله.4
وأساس العقائد الدينية هو الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وصدقُ الرسول صلى الله عيه وسلم ثبت ضرورةً؛ فكان كل ما أخبر به صدقا؛ لأن الصدق لا يولّد إلا صدقاً وهذا استنتاج علمي.
وخلاصة القول أن علماء الإسلام الذين سبقوا غيرهم من علماء العصور اللاحقة في الاكتشاف والتحليل وظفوا العلم والمنهج العلمي لغرض أساسي هو الإيمان، وأن العلم الذي سبيله الاستدلال العقلي أو النقلي هو منهج العقيدة الإسلامية، وهذا ما أثبتته البراهين العقلية ونصوص الكتاب والسنة، وأن «الدوغمائيين» الحقيقيين هم الذين يوظفون الجهل والتدليس والتضليل الإعلامي لتحقيق أغراضهم في الصد عن سبيل الله من غير علم حقيقي ولا هدى ولا كتاب منير .
—————
1 – نقولات مجتزأة من التفسير الكبير [مفاتيح الغيب ] لفخر الدين الرازي رحمه الله .
2 – انظر: شرح اللمع، أبو إسحاق الشيرازي، 1/155، 156.
3 – انظر: الفِصَل، لابن حزم، 4/38، إرشاد الفحول، الشوكاني، 266، فتح الباري، 13/352.
4 – مختصر سيرة ابن هشام، محمد عفيف الزعبي، ص:60
benashur@gmail.com