رأي

ما الذي تريدون يا سادة أتريدون: تجديد الخطاب الديني أم تزييفه؟

أ: محمد العلمي السائحي/

كان الدين ولا يزال يمثل بالنسبة للفرد والمجتمع، مطلبا ضروريا، تفرضه حاجة الفرد إلى السكينة والطمأنينة والأمل، كما تستدعيه حاجة الجماعة إلى الحشد والتأطير والتنظيم، وهذا هو السر الذي يقف وراء شيوع التدين في أرجاء المعمورة، حتى أن الذين ُيسمَّوْنَ بالوثنيين واللاّدينيين، الذين يكفرون بالله الواحد الأحد، لا يجدون حرجا في الاعتقاد بوجود الملائكة والجن والشياطين والسحر والأشباح، ويسلمون لهم بالقدرة على التأثير في حياة الناس، ودلالة ذلك الاعتقاد هي: إقرار صريح بالاعتقاد بالمغيبات سوى الله الواحد الفرد الصمد، وذلك في حد ذاته ضرب من التدين، ويؤكد هذا ضرورة الدين بالنسبة للخلق عامة، لأن الإنسان ليس جسدا صرفا، بل هو روح وجسد، وهذا الجانب اللامادي منه الذي هو الروح، مجبول على الإيمان بالقوى الغيبية، لأنه يلجأ إليها لتفسير ما تخطى حدوده العقلية، الذي هو في حاجة إلى تعليله حتى تسكن روحه وتطمئن، ونظرا لأهمية الدين بالنسبة للفرد والمجتمع كما بيناه، كان الدين دائما، عرضة لإعادة النظر فيما تضمنه من أحكام وتشريعات، بغرض تكييفها مع ما طرأ على حياة الناس، وما ظهر فيها من مستجدات، أوجدت الحاجة إلى تشريعات جديدة، تضبط سلوكهم، وتضعه في المسار الذي يناسب حاجة الفرد، ويحقق الصالح العام للجماعة، وهذا ما يفسر تعدد الرسل، وتجدد الرسالات السماوية، عبر العصور المتعاقبة، كما يفسر ظهور المصلحين الدينيين ما بين قرن وآخر، في كل الديانات.
وقد كان لهؤلاء المصلحين دور كبير في تحرير الفكر الإسلامي المعاصر من قيد التقليد، وفتح باب الاجتهاد أمامه على مصراعيه، وقد ساهم ذلك في حل الكثير من المشاكل التي كانت عالقة، مثل المشاكل الطبية المتعلقة بزراعة الأعضاء، أو تلك المتعلقة بعلاج العقم والتلقيح الصناعي، والمشاكل الاقتصادية المتعلقة بالصيرفة المالية والقروض، فتأسست بنوك إسلامية للقرض والاستثمار وفقا للشريعة الإسلامية، وفرض الدين نفسه كمادة ضرورية في منهاج التربية والتعليم وظهرت كليات للعلوم الشرعية ضمن هيكلة جامعات التعليم العام، في معظم البلاد الإسلامية، بعد أن كان تعليم الدين مقصورا على الأزهر والزيتونة والقرويين.
وفي الأصل أن التجديد الديني الذي تحمل عبئه رجال الإصلاح عبر العصور، لم يكن تجديدا بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما كان تصحيحا للمفاهيم المشوشة، وكشفا للبدع التي طرأت على التدين، وتطهيرا للفكر الديني، مما علق به من شوائب، ومازجه من سلوك، لا رابط بينه وبين الاعتقاد الصحيح.
أما تجديد الخطاب الديني كما هو في نظر محمد بن سلمان في السعودية، أو محمد بن زايد في دولة الإمارات العربية المتحدة، أو كما دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، أو كما توحي به الأصوات المتعالية هنا في الجزائر، فهو في حقيقته ثورة على الدين الإسلامي خصوصا، وسعي صريح لأبطال عقيدته، وتعطيل شريعته، وهو استجابة لدعوة الغرب لتكييف الإسلام، وفقا لما تقتضيه مصالح الغرب وحضارته، وقد عبر عن ذلك صراحة هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا السابق، الذي قال في مناسبة من المناسبات:((علينا أن نصنع لهم إسلاما يوافقنا)).
والإسلام الذي يناسبهم هو الذي ليس فيه دعوة للجهاد، ولا يعارض الخلوة والانفراد، ولا يمنع النساء من الانحراف والفساد، ولا يرفض العلمانية والإلحاد، ولا يحمل أتباعه على الصيام والقيام، ولا يمنع الناس من التلذذ بشرب المدام.
فهذا الدكتور جمال البنا، الذي هو حفيد حسن البنا رحمه الله، قد أباح للناس تناول الدخان في رمضان، وهذا الدكتور حسن الترابي، غفر الله له، ورحمه، في السودان، طلع علينا في وقت من الأوقات، بفتوى مقتضاها أنه يجوز للمسلمة أن تتزوج بكتابي، بحجة أنه ليس هناك نص في القرآن يمنع ذلك ويحرمه، وهذا الدكتور محمد هداية في مصر، ينكر حادثة الإسراء والمعراج، ويقول أنه لا صلاة ظهر ولا عصر ولا جمعة. وعندنا في الجزائر من ينكر الحج ويعتبر الطواف بالكعبة طقسا وثنيا كسعيد جاب الخير، بل هناك من يشيد بتمرد إبليس على الأمر الإلهي بالسجود لآدم ويعتبر ذلك قمة الوعي بالحرية كأمين الزاوي، وهناك من يعتبر قطع يد السارق الذي شرعه الإسلام كحد للسرقة ضرب من الهمجية وحب القسوة.
إذا نظرنا إلى كل ذلك إذن بتدبر، وإمعان فكر ونظر، يتقرر لدينا أن الذين يدعون إلى تجديد الخطاب الديني في وقتنا هذا، إنما يفعلون ذلك استجابة لأجندات سياسية تصب جميعها في تحييد الإسلام والحيلولة بينه وبين أن يكون عنصرا فاعلا في إذكاء المقاومة لتأثير الغرب في سياسات وواقع العالم الإسلامي، كما قد تكون هذه الدعوة في بعض مناطق العالم الإسلامي ارتكزت على عوامل داخلية محضة، تخص بلدا أو بلدانا عدة فيه، وهي تسعى حقيقة لتجديد الخطاب الديني الإسلامي رغبة منها في أسلمت الحياة الحديثة، وتمكين المسلمين من التكيف مع متطلبات التطور، دون الحاجة إلى التخلي عن دينهم الذي ألفوه، وتطبعوا عليه، ورضوا به، كما نجد ذلك عند مالك بن نبي، في كتبه ومقالاته ومحاضراته التي وصلتنا، والتي يعود إليها الفضل في تمكين الكثير من الدول الإسلامية من التوفيق بين حاجتها إلى التطور ومسايرة الركب الحضاري، وبين التمسك بقيمها الدينية والبقاء في إطار تشريعاتها الإسلامية، فنحن يا سادة يا كرام لسنا ضد التجديد حتى ولو كان في الدين، شرط أن يكون في خدمته، لكننا نعارض بشدة ذلك الضرب من التجديد، الذي يرمي إلى هدم الدين، والقضاء عليه بالكلية، عن طريق تحييد شريعته، وتعطيل أحكامه، وتزييف معتقداته والتشويش عليها، وللحديثة بقية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com