الـمفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث في حـوار مع البصائر: • ما يحملـه شعار جمعية العلماء في صميم المعادلة الاجتماعية للمجتمع الجزائري • من أراد أن يخدم هذه الأمــة فليقرأها كما يقرأ الكتاب ‘الإبراهيمي’ (الجزء الثاني)

حاوره الأستاذ: حسن خليفة/
هذا هو الجزء الثاني من الحوار المعرفي الفكري الثقافي المتشعب مع الأستاذ الدكتور الطيب برغوث الكاتب والمفكر الجزائري ،وقد كان الجزء الأول من الحوار صريحا وغنيا بالمعارف والتحليل،وفي هذا الجزء يضيف الأستاذ الطيب الكثير من الآراء المستنيرة والتحاليل الرائدة في مجال فهم المجتمع الجزائري وخدمته وما ينبغي أن يُبذل في سبيل الرقي به…وإلى الحوار:
ولكن السؤال الكبير الآخر هنا هو: كيف ننفذ إلى ما تسميه بجوهر الخصوصية في المعادلة الثقافية والاجتماعية والحضارية للمجتمع الجزائري؟ ما هو هذا الجوهر أساسا؟
-نعم، هنا تكمن معضلة أخرى من معضلات الوعي الكبرى، وهي كيف نحرر خصوصيتنا ومعادلتنا الثقافية والاجتماعية والحضارية من المتغيرات الفكرية والثقافية العرفية المستنفدة أو المنتهية الصلاحية، وننفذ إلى جوهرها السنني الثابت ونتشبث به، ونستصحبه معنا، ونتطور ونتجدد وننهض على ضوء ثوابت جذره أو روحه الجينية الثقافية النفسيةالأصلية المستقرة؟ وهذا كله مرتبط بالمدخل المفتاحي للوعي وهو المنظور السنني الكوني المتوازن، الذي أسميته «بمنظور السننية الشاملة» ، إذ كلما أمسكنا بمفاصل الوعي بهذا المنظور وثوابته السننية، وضبطنا وعينا على ضوئه، أمكننا النفاذ إلى ثوابت الخريطة الجينية الثقافية الحقيقية للمجتمع، المسؤولة عن خصوصياته الحقيقية، أو روحه وسيكولوجيته العامة الثابتة، وجددنا العلاقة بها، وأحييناها وأثريناها، وعمقنا وعينا واعتزازنا بها.
ولذلك نبه القرآن إلى هذه القضية المحورية في مواطن عديدة، وحررها من كل الموروثات اللاسننية، أو الموروثات التي استنفدت أغراضها، ودعا الناس إلى مراجعة مواريثهم بشكل دوري مستمر، وتخفيفها من الأثقال السلبية التي تكبل وتكبح فاعليةحاضرهم ومستقبلهم، كما جاء ذلك مثلا في قوله تعالى:
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[البقرة : 134]، وأشار إلى خطورة الموروثات السلبية على حركات التغيير والإصلاح والتجديد في المجتمعات، كما في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)
[الزخرف : 23].
ولعل ما يحمله شعار جمعية العلماء من مضمون يخص الدين بكل ثوابته ومقوماته، واللغة بكل أبعادها المكتوبة والشفهية، والوطن بكل جغرافيته البشرية والسيكولوجية والثقافية، وتطلعاته الحضارية، يشكل محورا أساسا لثوابت هذه الخصوصية أو المعادلة الاجتماعية للمجتمع الجزائري، التي تشكل المشترك الوطني بين الجزائريين، والإسمنت الذي يشد وحدة المجتمع، والإرث الذي تتغذى منه جميع الأجيال وتغذيه باستمرار، ويجب عليها أن تحميه وتنميه ولا تضر به.فهذا هو عمق المعادلة الاجتماعية للمجتمع الجزئري، بغض النظر عن التفاصيل والهوامش المهمة الملحقة بكل بعد من أبعادها الثلاث المحورية.
نعود الآن إلى فكرة أو مشروع الدليل الثقافي الاستراتيجي للدعاة والمربين وقادة الرأي العام الذي ذكرته من قبل، حدثنا عنه قليلا؟
-مشروع دليل الدعاة والمربين وقادة الرأي العام الذي أحببت إنجازه يوم كنت أستاذا في الجامعة الإسلامية، ولكنه توقف بسبب خروجي من الجامعة، مع أنني ما زلت أحلم بأن أنجزه أو أساعد من ينجزه من أجيالنا الجديدة، لأنه دليل يفترض أن تنهض به دولة أو مؤسسات ضخمة الإمكانات البشرية النوعية والمادية الضخمة، وهو دليل يركز على جغرافية وسيكولوجية وسوسيولوجية وتاريخ وخصوصيات كل منطقة داخل المجتمع الذي تستهدفه عملية الدعوة والتربية والإصلاح والخدمة.
فمجتمعنا مجتمع كبير ومتنوع وغني بعاداته وتقاليده وسيكولوجيته وسوسيولوجيته المركبة أو المعقدة، ويحتاج إلى دراسة وفهم لذلك كله، والنفاذ إلى مفاتيح معادلته النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية، والإمساك بها، والارتكاز عليها في تحديد طبيعة وأولويات وأشكال وفنيات العلاقة التي يبنبغي أن تكون بين الدعاة والمربين والمصلحين والساسة وقادة الرأي العام من جهة، وهذا المجتمع من جهة أخرى.
ومن الخلاصات السننية الرائعة في هذا المجال، والتي ألهمتني في تأليف كتاب الدعوة الإسلامية والمعادلة الاجتماعية، ما قاله الإمام البشير الإبراهيمي رحمه الله عن مفاتيح النجاح في خدمة المجتمع: «من أراد أن يخدم هذه الأمة فليقرأها كما يقرأ الكتاب، وليدرسها كما يدرس الحقائق العلمية، فإذا استقام له ذلك استقام له العمل، وأمن الخطأ، وضمن النجاح والتمام له».
وقد عزمت كما ذكرت لك، بأن أشرع في إنجاز أرضية لهذا الدليل الثقافي الاستراتيجي.. من خلال توجيه أبحاث الطلبة الذين كانو يدرسون عندي في الجامعة، أو غيرهم ممن كانوا في علاقات فكرية وتربوية معي خارج الجامعة، لجمع المعلومات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية.. عن كل بلدية أو منطقة، وتنظيمها وتحليلها وتقعيدها، ووضع أرضية لدليل ثقافي استراتيجي عنها، يثرى ويعمق مع مرور الوقت، لينتفع به كل داعية أو مرب أو مصلح أو سياسي أو قائد رأي عام.. يريد أن يتحرك في تلك المنطقة ويؤثر فيها ويخدمها ويرتقي بانسجامها وتكاملها وتوازنها وفعاليتها الاجتماعية النافعة للمنطقة والمجتمع عامة.
والفكرة ما تزال من الأفكار ذات العمق الاستراتيجي البالغة الأهمية، وينبغي أن تشتغل عليها بعض نخبنا الثقافية الواعية التي تريد فعلا خدمة هذا المجتمع، وتعزيز انسجامه وتكامل جهوده وفعاليتها.
تناولت هموما وقضايا كثيرة متنوعة ..هل يمكن أن نعرف منك أهم الأولويات التي يجب التركيز عليها في العمل الحضاري الإسلامي الوطني؟
-الأولويات كثيرة ومبعثرة وتحديدها صعب، إذ هناك أولويات في المجال الفكري الثقافي، وأولويات في مجال التربية، وأولويات في مجال السياسة، وأولويات في مجال الحياة الاجتماعية… وحيز هذه المحاورة لا يتسع للخوض في ذلك كله، ولهذا أود التركيز على أولوية استراتيجية مركزية بالغة الأهمية، ترتبط بها كل الأولويات الأخرى مهما تنوعت وتباينت.
فمن خلال تجربة طويلة، وقراءات واسعة عبر هذه التجربة، وتأملات مستمرة في واقع المجتمع الجزائري وواقع الأمة والإنسانية عامة، يمكنني أن أقول بأن جذر المشكلة في كل هذه الدوائر الإنسانية، يرجع إلى معضلة المنظورات الكونية المرجعية السائدة في هذه المجتمعات المختلفة، والمؤثرة فيها بشكل عميق، والتي كثيرا ما تتسم بالجزئية والتجزيئية والتنافرية المنهكة، سواء للشخصية الإنسانية، أو لحركية المجتمع والدولة، أو للعلاقات الإنسانية والكونية، لأنها منظورات تتأسس على رؤية جزئية للساحات الكونية الكبرى التي وزع الله فيها أو عليها سنن فهم الحياة وإدارتها بشكل صحيح وفعال وتكاملي، يضخ المزيد من الخيرية والبركة والرحمة الكونية في حياة الإنسان وحركة المجتمعات والدول والأمم والحضارات.
هل يمكن أن تعطينا بعض النماذج عن هذه المنظورات الكونية الجزئية كما تسميها، وتأثيراتها على حياة الإنسان؟
– فالمنظور الكوني المرجعي لنموذج الحداثة المعاصرة على سبيل المثال، الذي فرض وجوده على حياة الإنسان المعاصر بشكل شامل وعميق، يتمحور أفقه الفكري والمعرفي والحياتي عامة، حول ساحة سنن المادة أو ما أسميها، أخذا من القرآن الكريم، بساحة أو منظومة سنن الآفاق، وحول بعض جوانب ساحة أو منظومة سنن إدارة الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات، أو ما أسميه، أخذا من القرآن كذلك، بسنن الأنفس، ولا يكاد يتعداها إلى غيره من الساحات أو المنظومات السننية الكونية الأخرى، ذات الأهمية الكبيرة في حياة الإنسان.
وهذه النظرة الجزئية للساحات أو المنظومات الكونية التي تتوزع فيها سنن الله في إدارة الحياة، كانت لها عواقب سيئة كثيرة على حياة الإنسان المعاصر الفكرية والنفسية والاجتماعية، وعلى العلاقات بين المجتمعات الإنسانية، بل وعلى العلاقة بالطبيعة والكون عامة، التي تتسم بكثير من الاختلالات والمخاطر الحقيقية المعيشة والمتوقعة! بالرغم مما قدمته هذه الحداثة المعاصرة من إنجازات مادية هائلة ومفيدة للإنسانية.
فالسنن التي تحتاجها إدارة الحياة الإنسانية في مستوياتها الفردية والجماعية والحضارية والطبيعية والكونية.. ليست منحصرة في عالم الآفاق أو المادة وعالم الأنفس أو المجتمعات، بل هي موزعة على ساحات وعوالم كونية أخرى أساسية، وهي عالم سنن الهداية وعالم سنن التأييد، فإذا لم يتمكن الإنسان من الانفتاح عليهما والاستفادة من معطياتهما الضرورية، فإن تحكمه الكبير في سنن الساحتين السابقتين، سيتحول إلى طاقة مدمرة كما هو واقع فعلا!وأنظر إلى هذه المقولة لأحد كبار علماء الأحياء وهو رينيه دوبو الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، التي تلخص لنا بعدا عميقا وخطيرا من أبعاد التعاسة التي يعيشها الإنسان المعاصر في ظل المنظور الكوني الجزئي للحداثة المعاصرة «الإنسان اليوم ليس غريباً عن أخيه الإنسان فحسب، بل الأهم أنه غريب معزول عن أعماق ذات»!
وماذا بالنسبة للمنظورات الكونية غير الحداثية المعاصرة؟ هل تعاني من نفس المشكلة وتفرز نفس النتائج السلبية؟
-المنظورات الكونية للنماذج المرجعية الجزئية الأخرى في المجتمعات الضعيفة والمتخلفة والمستلبة والمغلوبة على أمرها، بما فيها المجتمعات الإسلامية طبعا، تفضي إلى نتائج أسوأ وأشد قساوة! لأنها منظورات لا تمكن أصحابها من الاستفادة لا من معطيات سنن الله في الآفاق ولا في الأنفس ولا في الهداية ولا في التأييد! بل هي متخلفة ومحرومة من خدمات كل هذه المنظومات السننية الكونية المتكاملة، وواقع هذه المجتمعات خير وأقوى مؤشر ودليل على مصداقية ما أقوله مع الأسف الشديد! فهي كلها تعاني من التبعية المذلة، وكرامة الإنسان فيها مهانة، وكرامة الأوطان مهدورة، ومقدراتها مستباحة، وأمل النهضة فيها مغتال!
ولكن المسلمين لديهم الإسلام الذي يعتبر أشمل وأكمل وأرقى نماذج المنظورات الكونية المرجعية، بنص القرآن، وبشهادة التجربة التاريخية، فكيف يصدق هذا التحليل والوصف عليهم؟
-لقد كنت دقيقا أخي حسن عندما قلت المسلمين ولم تقل الإسلام! لأنه مع الأسف، فإن المسلمين أصبحوا شيئا والإسلام بات شيئا آخرفي حياتهم وسلوكهم، في كثير من جوانب تفكيرهم وتصوراتهم وسلوكاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم بالله وبأنفسهم وببعضهم البعض وبغيرهم من البشر وبالطبيعة والكون! فكثير من المسلمين وبحسن نية، وبجهل لحقيقة الإسلام، يتحركون في كثير من جوانب حياتهم بعيدا عن منطق الإسلام ومقتضياته! وبعضهم يتحرك بسوء نية ضده، وهم قلة والحمد لله، ولكنها مع الأسف مؤثرة، لأسباب شتى!
نعم الإسلام هو أشمل وأكمل وأرقى المنظورات الكونية المرجعية على الإطلاق، ولكن المسلمين فتتوه إلى أجزاء وتفاريق متنافرة، كل منها يعرض على أنه هو الإسلام الصحيح الحق، وأنه الإسلام الوسطي، وأنه الإسلام السلفي العتيد، وأنه الإسلام الحضاري، وأنه الإسلام التقدمي، وأنه الإسلام المنجي، وأنه الإسلام العصري أو الحداثي.. إلى ما هنالك من الإسلامات المتنافرة المزعومة، التي فككت صورة الإسلام الحقيقية في أذهان الناس مسلمين وغير مسلمين! وأربكت موقفهم منه، وحقيقة الإسلام وواقع المسلمين معا، يكذبان الكثير من هذه الإدعاءات والمزاعم، ويبرِّآن الإسلام من ذلك، ويحمِّلان المسئولية للمسلمين الذين أحلوا أهواءهم وعاداتهم وتقاليدهم ومصالحهم وجهالاتهم.. محل حقيقة الإسلام، وحكموها فيه، وأخضعوه لها،.
هل من أمثلة توضيحية وتأكيدية هنا؟
-الأمثلة لا تحصى، فماذا نذكر وماذا ندع! خذ على سبيل المثال قصة علاقة كثير من السياسيين والحاكمين منهم خاصة،بالإسلام عبر التاريخ، فسترى بأن الحاكم يخضع الإسلام لرغباته وإرادته وشهواته ومصالحه في كثير من الأحيان، مستعينا بما سماه كثير من الدارسين بعلماء السلطان أو البلاط، الذين يصدرون الفتاوى في الأمور الحاسمة حسب رغبة الحاكم، فترى لنفس العالم فتوى تحرم الشيء في فترة، وفي فترة تالية لها تحلله وتبرره وتحبذه، ثم تحرمه مرة أخرى ثم تحلل.. وهكذا تدور مع رغبة ومصالح الحاكم كيفما درات! وانظر إلى ما يجري في الفترة الأخيرة بعد ما سمي بالربيع العربي، وهرولة كثير من الأنظمة السياسية إلى الاحتماء بالنفوذ الإسرائيلي من شعوبها التواقة إلى التغيير والإصلاح، لتجد عجبا! فكيف يثق الناس في هذا النوع من الإسلام الذي يعرضه هؤلاء حسب الطلب، وكأنهم في مزاد علني مفتوح على الدفع الأعلى!
والمثال الآخر الذي أود أن أذكره لك بهذه المناسبة، هو قصة نرويجي على مشارف الخمسينات من عمره، وهو رجل مثقف رزين ومدير مدرسة، رغب في التعرف على الإسلام عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 في أمريكا، وبقيت معه ما يقرب من أربعة أشهر نلتقي ساعة ونصف إلى ساعتين كل أسبوع، أجيب عن أسئلته وأعرض له من خلالها حقيقة الإسلام، ويبدو أنه أعجب بما عرضته عليه، فسألني في نهاية اللقاءات سؤالا مهما ومعبرا جدا، وهو: هل المسلمون يعرفون هذه الأمور عن الإسلام؟ وأدركت خلفيات ومقاصد سؤاله الذي يدل على أنه خائف من أن يكون ما عرضته عليه عن الإسلام هو مجرد دعاية وتبييض لوجه الإسلام من أجل اجتذابه إليه، لأنه يستحضر في ذهنه صورة المسلمين المتخلفة البئيسة، كما يستعرض نماذج من الدعوات المتخلفة للإسلام، التي تجعل الإنسان غير المسلم وخاصة الغربي، يحس بأن ما هو عليه أرقى وأفيد وأليق بإنسانية الإنسان، مما يعرضه بعض المسلمين عن الإسلام أو يعيشونه!
فلما فرقت له بين حقيقة الإسلام وبعض المسلمين، وبين حقيقة المسيحية وبعض المسيحيين، وبين حقيقة الديمقراطية وبعض الديمقراطيين… ونبهته إلى أنه يمكن أن يكون أحسن وأفضل إسلاما من كثير من المسلمين الإسميين أو الجغرافيين، وأكثر نفعا للإسلام وخدمة له، إقتنع بكلامي وأسلم وسافر إلى ماليزيا وتزوج ماليزية وأنجب منها عدة أولاد وبنات.
فالأولوية الكبيرة التي يجب التركيز عليها في العمل الحضاري الإسلامي الوطني، في نظركم إذن، هي بناء وتجديد الوعي بالمنظور السنني الكوني الكلي المتوازن كما تسمونه، هل هذا ما ترونه وتؤكدون عليه؟
-نعم، هذا ما أراه بالغ الأهمية، ليس في هذه المرحلة فحسب، بل في كل وقت، إنه يجب أن يكون هو الأولوية الإستراتيجية الدائمة للأفراد والمجتمع والأمة بل والإنسانية عامة، لأن صلاح المنظور الكوني ومطابقته لحقائق وسنن الوجود الإلهي والكوني والإنساني، يؤثر بعمق وقوة في صلاح بقية مناحي الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، الدنيوية والأخروية، واضطرابه أو فساده، يؤثر سلبا في كل مناحي الحياة الإنسانية كذلك.
ولهذا كانت المهمة الأساسية الأولى للرسالات السماوية عبر التاريخ، ولحركات الإصلاح والتجديد، هي بناء الوعي بهذا المنظور السنني الكوني المتوازن، فجوهر مهمة ورسالة الدين في الحياة هي بناء وإصلاح المنظورات الكونية للناس، حتى تتطابق وتنسجم مع حقائق وسنن الوجود الإلهي والكوني والإنساني، ولا تتناقض معها. وأنظر على سبيل المثال في السنة النبوية الشريفة، كيف ركز الرسول عليه الصلاة والسلام على قضية إصلاح الدين، باعتباره مركز وبؤرة المنظور السنني الكوني الكلي المتوازن، فقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة كان يكثر من هذا الدعاء العظيم: ( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرّ ). كما قال في حديث آخر بالغ الأهمية في هذا المجال: ( إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها دينَها).
فالثورات أو الهبات الثقافية الدورية الكبرى، تتمحور حول إصلاح المنظورات السننية الكونية الكبرى وتجديد وعي الناس بها، لتكون مدخلا لإصلاح وتجديد الحياة بشكل شامل ومتكامل ومتوازن بعد ذلك. أما الغفلة عن هذا الجذر أو العمق في عمليات الإصلاح والتجديد والنهضة، والجري وراء معالجة الأعراض وترقيع الجزئيات هنا وهناك، فهو مسلك لا جدوى منه، لأنه يعمق الأزمات الثقافية والاجتماعية والحضارية ويعقدها، ويعصب حلها.
إذن المنظورات السننية الكونية الشاملة كما تسميها، هي مفتاح إصلاح الوعي وإصلاح الحياة في نظركم؟
-بكل تأكيد، فنحن مهما أخذنا من النماذج، واستعرضنا من المشكلات التي يعيشها الإنسان المسلم والمجتمعات الإسلامية، وكذا الإنسان غير المسلم والمجتمعات غير المسلمة، وأردنا أن نقف على جذرها ومنبعها الأساس، فإنناسنصل في نهاية كل تحليل وتفسير لهذه المشكلات والاختلالات، إلى التأكد من أن اضطرب المنظورات الكونية الجزئية المتنافرة،لها مدخلية ومسئولية كبيرة في ذلك، لأن كثيرا من المنظورات الكونية الجزئية تعاني من الصدامية الجزئية أو الكلية مع حقائق الوجود الإلهي أو الكوني أو الإنساني هنا أو هناك، وتقود الإنسان في كثير من الأحيان إلى أنواع من ازدواجية الشخصية وتنافرية السلوك، واضطراب وتنافرية العمل، واهتزاز وهشاشة العلاقات الاجتماعية، وتنافرية واختلال العلاقات الإنسانية بين الشعوب، واحتدام الصراعات الخفية والمعلنة المنهكة والمهلكة فيما بينها، بل ويتعدى ذلك التأثير إلى صدامية وتنافرية العلاقة بين الإنسان والطبيعة والكون، كما جاء بيان ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[الروم : 41].
من هنا أكدت كثيرا وسأظل أؤكد على قضية أو أولوية بناء الوعي بالمنظور السنني الكوني الشامل، كمدخل مفتاحي لأي تغيير أو إصلاح أو تجديد أو نهضة حضارية إنسانية حقيقية متوازنة في العالم الإسلامي، أو غير الإسلامي، فلا نضيع جهودنا وإمكاناتنا وأوقاتنا وفرص حياتنا.. في معالجة أعراض المشكلات والأزمات، والجري وراء ترقيع الجزئيات المتناثرة هنا وهناك، ولنذهب مباشرة إلى جذر المشكلات ومنبعها الرئيس الذي إذا صلحت الصلة به صلح ما بعده، وإذا فسدت هذه الصلة فسد ما بعدها، وهو إصلاح وتجديد وبناء المنظور السنني الكوني الكلي المتوازن.
من يقرأ أو يسمع تأكيدكم على أولوية بناء الوعي بالمنظورات الكونية، يظن بأن بقية الأولويات الحيوية الأخرى من تنمية وإصلاح تربوي وأسري واجتماعي واقتصادي وسياسي، وبناء لقدرات الدفاع عن المجتمع ومصالحه العليا.. لسيت ذات أولوية، ويجب أن ننتظر حتى نصلح الوعي بالمنظور الكوني وهو أمر نظري طويل المدى، ثم نعتني بهذه الأولويات الحيوية العاجلة بل والدائمة، كيف يستقيم هذا في نظركم مع الأولوية التي تطرحونها؟ وكيف نوفق بينهما؟
-لا.. لا! ليس هذا قصدي إطلاقا، فحركية الحياة لا تتوقف على شيئ، ولو أردنا توقيفها ما استطعنا، ويجب عليها أن تمضي قدما لتلبية ضروريات وحاجيات ومحسنات حياة الناس بقدر المستطاع، وخدمة الأولويات المشروعة لها مهما كان فيها من اختلالات، ولكن في نفس الوقت يجب علينا أن نفكر بجدية في الأولويات ذات التأثير الجذري البعيد المدى على حركية هذه الحياة، لكي تسير في طريقها الصحيح، وعلى أولوياتها القائمة،لكي تُلبى بشكل أفضل وأكثر خيرية ونفعا وبركة ورحمة، وليس هناك في نظري ما يصحح مسارات الحياة، ويجدد فعاليتها وخيريتها وبركتها ورحمتها الكونية العامة، ويمنح الأولويات الجزئية المختلفة للأفراد والمجتمع والدولة والأمة، مصداقيتها وفعاليتها المطلوبة، من المنظورات السننية الكونية الصحيحة الشاملة المتوازنة، لأن الإهتداء إليها، والإستهداء بها في إدارة الحياة، يعطي للحياة أبعادها ومعانيها وطعمها الحقيقي، ويضع الأولويات في أماكنها الصحيحة، ويؤمِّن فعالية وتكاملية إنجازها، ويضمن لها المزيد من الخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة.
وعدم الجمع بين البعدين في حياتنا الفردية والجماعية هو الخلل الكبير والخطير، لأن الأولويتين تسيران معا جنبا إلى جنب، فإذا تعطل دور أي منهما اضطربت حياتنا وتعسرت، لذلك فنحن علينا أن نمضي قدما بكل قوانا في تلبية أولويات حياتنا الحيوية، مع العناية القصوى بمراجعة وتجديد الوعي بمنظوراتنا الكونية الشاملة بشكل مستمر، لأن أي خلل أو اضطراب أو قصور أو انحراف فيها، ينعكس بشكل سلبي جدا على حياتنا عامة وعلى أولوياتنا فيها خاصة، ويتعرض وجودنا الدنيوي للخطر ، كما يتعرض وجودنا الأخروي لخطر أشد منه.
هل يمكن أن نستحضر هنا بعض النماذج أو المؤشرات عن خطورة هذا الانفصال أو الاسترخاء في العلاقة بين الأولويتين في حياة الأفراد والمجتمعات؟ أي أولوية تجديد الوعي بالمنظور السنني الكوني المرجعي الشامل للمجتمع كما تسمونه، وأولوية تلبية حاجات ومتطلبات المجتمع الحيوية الآنية؟
-يمكن أن نشير هنا إلى إحدى النتائج السلبية الخطيرة التي تترتب عن ضعف أو اضطراب الوعي بالمنظورات السننية الكونية المرجعية الشاملة، وتقلص تأثيرها على وعي الناس وأولوياتهم وحركتهم الاجتماعية، وهي تحول الكثير من الأهداف والأولويات الجزئية التي يضعها الفرد أو المجتمع مع مرور الزمن، إلى أولويات كلية معزولة قليلا عن مؤطراتها المرجعية الكلية، وتكاد تتحول إلى منظورات كلية جديدة، ثم تتجزأ هذه الأهداف والأولويات التي صارت شبه كلية مع مرور الزمن، إلى أهداف وأولويات جزئية جديدة منفصلة عن سابقتيها، وتتحول بدورها إلى أهداف وأولويات كلية جديدة، ثم ما تلبث هي الأخرى أن تتجزأ وتتحول إلى أهداف وأولويات كلية جديدة منفصلة عن سابقاتها.. وهكذا دواليك يتسلسل الانفصال عن المؤطرات السننية المرجعية الكلية الأم، وتصاب منظومات الوعي في المجتمع بتورمات سرطانية فتاكة، تضر كثيرا بانسجام المجتمع وتكاملية جهده، وبفعالية أدائه في وجه التحديات المحيطة به.
فتطور المجتمعات بعيدا عن منظوراتها السننية الكونية المرجعية الأم، يقذف بها في دوامات التيه والتنافرية المنهكة، التي تربك هويتها الذاتية، وتشوش بوصلة تحديد وجهة حركتها، وتفقدها وزنها الحضاري، وتجعلها عرضة للتذبذبات المنهكة، ومرْفَسة ولقمة سائغة للتيارات والقوى الفكرية والثقافية والحضارية المتدافعة في العالم. إنها تكون في حالة تيه تشبه أو تطابق تماما وضع الكائن الذي ينفصل عن مركز جاذبيته وارتباطه العضوي الأصلي، ويهوي في متاهات سحيقة ساحقة لا قرار لها! كما حدث للغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة، ففقد مشيته ولم يكتسب مشيةالحمامة! فأصبح جنسا آخر ممسوخا ومنبوذامن جنسي الغربان والحمام معا!
وكثير من المجتمعات المعاصرة ومنها المجتمع الجزائر طبعا، عانت وتعاني من هذه المعضلة، بسبب اضطراب وتذبذب وعيها بمنظورها السنني الكوني الشامل الأم، الذي تعرض لاختراقات فكرية وثقافية وعقدية واجتماعية شتى،فتشوهت حقيقته في نفوس أصحابه، وتجزأت وتنافرت معطياته لديهم، فأمسك كل فريق بجزئية منه، وحولها إلى كلية ثم إلى كليات متشرذمة، وانحبس فيها، وعدها هي أصل المنظور وجوهره، وانطلق منه ليفهم نفسه ومجتمعه والعالم من حوله، ويحكم عليه، ويقيم العلاقة به، ويحدث التغيير والنهضة في حياته على أساس ذلك الجزء من المنظور الكلي.
ويكفي أن يتأمل الإنسان في الساحة الثقافية والسياسية والاجتماعية لدينا أو في العالم الإسلامي على سبيل المثال، ليقف على مخاطر انفصال الوعي عن حقيقة وجوهر منظوره السنني الكوني الشامل،وما يحدثه ذلك من تنافرات واهتلاكات منهكة في الشخصية وفي المجتمع والدولة! كما تظهر بعض تجليات ذلك في الساحة الصوفية المتشرذمة المتنافرة، والساحة السلفية المتشرذمة المتنافرة، والساحة السيساية المتشرذمة المتنافرة، والساحة العلمانية المتشرذمة المتنافرة، والساحة الاجتماعية المتشرذمة المتنافرة، والساحة الثقافية المتشرذمة المتنافرة.. وهلم جرّا.
إن هؤلاء الذين تجزأت وتبعثرت وتشرذمت رؤيتهم بمنظورهم السنني الكوني الشامل وعلاقتهم به، يشبهون تماما العميان السبع الذين جيئ لهم بفيل وطلب منهم تقديم وصف عن حقيقته، فم يستطع أي منهم أن يقدم وصفا حقيقيا عن الفيل، بل قدم كل واحد مهم وصفا لجزء من الفيل لا علاقة له بحقيقة الفيل أبدا!
فالأهداف والأولويات التي يضعها الأفراد والمجتمع والدولة لأنفسهم، إذا لم تكن موصولة بعمق منظوراتها السننية الكونية المرجعية الشاملة، ومتحركة ومتطورة في ضوء موجهاتها الرئيسة، فإنها تفضي مع مرور الوقت إلى التبعثر والشرذم والتنافر والتفكك المنهك، ولذلك يعتبر الوعي بالمنظور السنني الكوني الشامل، هو العاصم من القواصم المهلكة للأفراد والمجتمعت والدول والأمم والحضارات.
يُتبــع