ماذا بعد البكالوريا؟
في نهاية كل سنة دراسية يسود الترقب معظم العائلات أملا في نجاح أبنائها في امتحان أريد له أن يكون موعدا سنويا مشحونا بمشاعر الخوف والقلق والتوتر، ومحملا بآمال عريضة في العبور من ضفة التعليم الثانوي إلى ضفة التعليم العالي الواعدة بالتمكين من أدوات التحكم في المستقبل. إنه، أو هكذا كان من المفترض أن يكون، الامتحان المفتاح الذي يلج حامله إلى المرحلة الأخيرة من مسار التعليم الطويل، وهو مؤهل للترقي في معارج العلم والمعرفة بكل ثقة ويسر. لذلك، وإلى أمد ليس بالبعيد، كان مألوفا لدى المتعلمين ولدى أسرهم ولدى المجتمع ككل أن النجاح في البكالوريا، ذلك الامتحان الأسطورة، ليس بالأمر الهين بل إنه استحقاق بالغ الأهمية، ظهرت نتائج امتحان البكالوريا،وفرح من فرح، وحزن من حزن..لكن كلتا الحالتين لا تدومان الا لفترة قصيرة، فيدخل الفرحون في متاهات ما بعد البكالوريا.
إن شهادة البكالوريا تأشيرة للغوص في بحار المعرفة أو الانخراط في بعض المهن، لذا يتعين عليك، بعد الفراغ من فرحتك، أن تجلس إلى ذاتك، لتختار وجهتك، ستعيش فريسة الحيرة، وقد تعيش فريسة الإحباط إن كانت لك رهانات مسبقة.
لا زلت أذكر لحظة اجتيازي لامتحان البكالوريا والتي مر عليها من السنين ما يكفي لتنسى .. لكنها تأبى أن ترحل من ذاكرتي، لا زلت أستشعر ذات الأحاسيس وأنا أحضر للامتحانات : توتر، قلق، فوضى عارمة إذ كنت أعتكف في غرفتي وسط جبل شامخ من الأوراق والكتب، شبه إضراب عن النوم والطعام والحياة ككل … لا زال قلبي يخفق خوفا حين تعود بي ذاكرتي إلى قاعة الاختبار، لا زالت ركبتي ترتجف وكأني أقف أمام باب الثانوية أنتظر إعلان النتائج، لا زال نظري يخونني وكأني أتنقل بين أسماء زملائي في لائحة الناجحين، لا زالت الحرب النفسية تحتل أركان روحي كلما سمعت “الباك”.
مر الامتحان في لمح البصر، أعلنت النتائج، واستفقنا من كابوس أسود!! ماذا بعد؟! كيف يمكن لشهادة أن تجعلنا نعيش هذا الجو المكهرب دون أن نعرف الوجهة بعدها؟! أو بالأحرى نحن نعرفها -نحلم بها- لكننا على سطح الحظ نطفو، فإما أن نصل القمة ونتجاوز الحلم وإما الغرق في الأعماق دون أدنى محاولة للإنقاذ…!
شهادة البكالوريا! ذاك الشبح الذي هوله المجتمع وجعل منه معيارا لتحديد المستوى التعليمي للتلاميذ، فيصبح الكل بين ليلة وضحاها يهتم بالامتحان وبالنتائج ويترقب ظهورها كي يبادر بالتبريكات والتهاني أو بالتأسف والتظاهر بالحزن على من لم يحالفه الحظ في اجتيازها…!
ما لا أكاد أستوعبه أنا، هي الهالة التي لا زالت تحوم حول هذه المحطة في الوقت التي لا تكاد تتعدى كونها مرحلة من المراحل الانتقالية في حياة التلميذ …! نظرة غريبة حقا لا يزال ينظر بها لهذه المحطة خصوصا وأننا صرنا ندرك ما يعانيه التعليم العالي والبحث العلمي من مصاعب وعقبات والتي يجد الطالب نفسه مجبرا على اجتيازها سواء أ كان قد حصل على البكالوريا بميزة حسنة أو بعد أن استدركها في فرصة ثانية.. هناك الكل سواسي! هو مسلسل تبدأ حلقاته حالما يستفيق الناجح في اليوم التالي من كابوس الشبح؛
مسلسل طويل، تفاصيله متعبة، ومستقبله مجهول المعالم والملامح.
لأعود وأستغرب وأنا أرى المجتمع يولي أهمية كبرى لشهادة -عادية بالنسبة لي اليوم بعد أن رأيت ما رأيت مع من تحصلوا عليها- لن تجعل الناجح أكثر حظا من المستدرك أو من سيكرر السنة.
لأعود وأستغرب وأنا أراه يدخل التلميذ في علبة مغلقة لا باب لها، فيجد الأخير نفسه وسط زحام نفسي خانق وحرب معلنة أمامه، الحل الوحيد للهروب منها هو النجاح وإلا فسينال من الشفقة ما يكفيه ليتدمر ومن النعوت ما تكفيه لتتدهور نفسيته ومن العنف ما يجعله يستهين بقدراته ولا يرى نفسه إلا فاشلا، ناقصا، عالة على الجميع …! فينعزل البعض ويتقوقع بعيدا عن نفسه وعن المحيط وتدوي صرخة البعض الآخر معلنا انسحابه أو هروبه الاضطراري من الحياة ككل…!
من صحيح القول ان لا ياس مع خطوة الى الوراء، فالسهم يحتاج أن ترجعه للوراء لينطلق بقوة إلى الأمام، فإذا كان النجاح الجائزة التي يفوز بها من اجتهد على مدار العام الدراسي في تحصيل الدروس، فالمعدل أو التعثر أو الرسوب وعدم اجتياز الامتحان بنجاح، ليس نهاية المطاف، أو ختاماً لرحلة الدراسة، فمن معاودة الكرة من جديد، مع التصميم والإرادة في إثبات الذات، وترميم الآثار النفسية التي ترتبت على الفشل، يأتي التميز، اذ ليس النجاح المتواصل من سمة الحياة، انما مابين السقوط، فالوقوف بقوة تكمن الطبيعة البشرية، لاسيما مع اقتناع المرء التام بأنه لايزال هناك غد مقبل، وآمال في الآفاق، وأمنيات ستتحقق بإذن الله .
بن فردي شعيب
كاتب ومدون ناشط اعلامي شبابي