مرة أخرى…أفغانستان في الواجهة
عبد العزيز كحيل/
يكتمل في الأيام القادمة انسحاب الجيوش الغربية – على رأسها الأمريكية – من أفغانستان بالتزامن مع سيطرة حركة طالبان على المزيد من المناطق هناك حتى إنها تسيطر على 85 % من البلاد، فما الجديد هناك؟ وماذا بعد؟
أثبتت الأحداث للمرة الألف أن أفغانستان عصية على الاحتلال الأجنبي، قد يغزوها طرف ما لكن من المستحيل أن يستمر فيها أو يطفئ جذوة الجهاد في أهلها، وها هي أمريكا تتعظ بنفسها وتخرج منها مخذولة مذمومة بعد أن خاضت فيها أطول حرب في تاريخها دامت 20 سنة كاملة، سقط لها فيها أكثر من 2400 بين ضابط وجندي، وكلفتها 2000 مليار دولار، أي أكثر من تكلفة الحرب العالمية الأولى كلها، وأغرب من ذلك أن غريمها الذي طردته من السلطة في 2001 – حركة طالبان – استرجع كامل قواه وهو بصدد العودة إلى السلطة، ومن الطريف أن نعرف أن القوات الأمريكية أخلت آخر قواعدها في أفغانستان – قاعدة باكرام – منذ أسبوعين، وفعلت ذلك ليلا من غير أن يعلم بذلك حلفاؤها هناك…هذا من شدة الخوف من طالبان الذين بدؤوا في شنّ هجومات كبيرة في كامل التراب الأفغاني منذ أيام تحسبا لدخول كابول بعد انسحاب قوات التحالف الغربي… فماذا استفادت أمريكا وحلفاؤها من هذه الحرب الطويلة؟ لا شيء.
إن نظرة على تاريخ أفغانستان تؤكد أن أحدا عبر التاريخ لم يستطع احتلالها لمدة طويلة:
– غزاها الإسكندرالأكبر الإغريقي 300 سنة قبل المسيح فأبيدت جيوشه، حتى الذين لم يموتوا في ساحة الحرب قضوا بالبرد في الجبال شتاء، وبالحرارة في الصحاري صيفا.
– خرب القائد المغولي المشهور جنكيز خان أفغانستان بعد أن احتلها لكن اضطر إلى الفرار منها بسبب شوكة أهلها.
– غزاها البريطانيون في القرن التاسع عشر لكنهم منوا بفشل ذريع، وهناك حادثة مشهورة هي فيلق من العسكر قصد منطقة معينة فهاجمه الأفغان وقتلوا جميع الجنود باستثناء واحد منهم أبقوه حيا ليحمل رسالة إلى قائد الغزاة، واضطر البريطانيون إلى المغادرة.
– أما الغزو السوفييتي فهو قريب العهد، ونعلم جميعا كيف سيطر الروس سيطرة كاملة على البلاد سياسيا وعسكريا لكنهم ووجهوا بمقاومة ضارية أرغمتهم على المغادرة بعد عشر سنوات من الخسائر الفادحة.
تقول حكمة أفغانية موجهة للغزاة «عندكم الساعات وعندنا الوقت»…والوقت كان دائما في صالح الأفغان ضد الغزاة.
كل هذا جميل، لكن ماذا ينتظر هذا البلد الفقير المتخلف بعد انسحاب الأمريكان؟ هل سينعم بالاستقرار؟ هل سيدخل عهد التقدم؟ مع الأسف يبدو كل هذا بعيد المنال، أثبت التاريخ أن الأفغان يحسنون فنّ القتال لكنهم لا يحسنون فنّ الحياة … عندما تغلب المجاهدون على الروس وطردوهم من بلادهم لم يستطيعوا الاتفاق على أي شيء، لم يباشروا عملا تنمويا ولا عملوا على إخراج البلاد من التخلف، بل قضوا سنوات في معارك زعاماتية، رغم وجود وجوه علمية وجهادية كبرى بينهم مثل برهان الدين رباني وقلب الدين حكمتيار وعبد الرسول سياف، وهذا ما حدا بحركة طالبان أن تتكون وتتقوى وتتحداهم جميعا وتزيحهم من السلطة … طالبان التي ستعود إلى السلطة قريبا – كما يبدو من تطور الأحداث – حكمت من قبل، وكان حكمها «الإسلامي» نموذجا غريبا…نعم وفرت الاستقرار، بسطت الأمن، حاربت «رؤساء الحرب» وحيّدتهم، لكن بأي ثمن؟ كان نظامها مبنيا على ما تسميه العودة إلى الحياة البدائية «كما كانت في صدر الإسلام!!! فتميّز بفرض القطيعة مع جميع أشكال الحياة العصرية، من تعليم الفتيات ومشاركة المرأة في الحياة العامة إلى الترفيه بكل أشكاله (السينما والمسرح والموسيقى والرياضة )، مرورا بإغلاق محلات الحلاقة والإذاعة والتلفزيون، ووصولا إلى تحطيم التماثيل البوذية بالمدافع (مع العلم أنها كانت سابقة لوصول الإسلام، ورآها الفاتحون ومَن بعدهم ولم يعيروها اهتماما).
بقيت أفغانستان بعد دخول الأمريكان وبعد خروجهم فقيرة متخلفة اقتصاديا، تنعدم فيها البنى التحتية وأدنى شروط الإقلاع الاقتصادي، لكنها عرفت خلال 20 سنة «انفتاحا» اجتماعيا ملحوظا، أهمّ معالمه تعميم التعليم إلى حدّ ما، ووجود الصحافة بكافة وسائطها، فهل ستقبل حركة طالبان استمرار هذا الانفتاح أم تعود إلى نظرتها السابقة لنظام الحكم وفق الشريعة وإلى التضايق من جميع أشكال الحداثة؟ وفي هذا الحالة هل تقبل طوائف الشعب الأفغاني التي تأقلمت مع هذه «الحداثة» بالتنازل عن هذا المكسب والانصهار في حكم طالبان الصارم؟…هل ستستقر أفغانستان أم سيكون الانسحاب الأمريكاني مجرد جولة تتبعها جولات أخرى من العنف والتخريب والتردي؟
كم نتمنى أن تحفظ طالبان الدروس وتجنح إلى الوسطية الإسلامية وتستعين بالعلماء الفحول، وتقدم المؤهلات العلمية على إطلاق اللحى في تولي وظائف التوجيه والسلطة.
بقيت الإشارة إلى مسألة طريفة هي أن المرجعية الدينية الرسمية في السعودية وصفت قتال الأفغان للروس بالجهاد، ووصفت قتالهم للأمريكان بالإرهاب !!!