لا رهان على جواد خاسر/د. عبد الرزاق قسوم

انطفأت الأضواء الكاشفة، وذبلت الشموع، وخفتت الأصوات، وانفضت –على قلّتها- الجموع، وساد الصّمت، والترقب، كل الربوع، فصوّت من صوّت، وأمسك من أمسك من “الزعفانين” (الغاضبين) تحت وطأة، مختلف القناعات والطبوع.
وها هي مرحلة الأفعال، قد دقت لتحل محل الأقوال، فيتم الاختبار، للمسؤولية، من أصلح النساء والرجال لإدارة الشؤون والأعمال، إنّها اللّحظة الحاسمة، في إحداث التغيير، وتجديد السير والتسيير، والرّهان على الواعين، يضع أفضل المصير.
في بلادنا اليوم، أزمة متعددة المجالات، ومتنوعة الأسباب، وقد خبرنا بعض المسؤولين الذين فشلوا في اتخاذ المبادرات الناجحة، وفتح القلوب، والعقول للشعب، وإزالة الحواجز وعدم غلق الأبواب.
إن القاعدة العلمية الثانية، والرياضية، الثابتة، هي أن لا نغير الفريق النّاجح، ولا نزيل القائد النّاصح، الفالح، الرابح، “وأن تبديل السروج راحة” كما يقول المثل الشعبي الجزائري الحكيم، لذلك يجب إقصاء كل من ثبتت عليه خيانة الأمانة، وكل من تلاعب بأموال الشعب، فسبب له الإدانة والمهانة.
وما ينطبق على البلدية والولاية، ينسحب على المسؤولية الوطنية، في أية غاية أو وصاية. وها هي ذي المشاكل تخنقنا من كل الجوانب، وتطوقنا من جميع الجهات المحن والمصائب.
ولنأخذ على سبيل المثال، والعيّنة، منظومتي الصحة العقلية، والصحة البدنية، فهل أتاكم –يا قراءنا الأعزاء- نعي منظومتنا التربوية، من المنظّمات التربوية الدولية؟ لقد صنفت المدرسة الجزائرية في المرتبة المئة والسادسة عشرة بين 140 من المدارس الدولية، وفي المرتبة الحادية عشرة، ضمن المدارس العربية، ولمثل هذا يموت القلب من كمد، إن كانت في القلب بقايا وطنية، وبقايا إيمان، وبقايا إنسانية.
فهذه الميزانيات الضخمة التي خصصناها للمنظومة التربوية، تكافئنا بأن تجعلنا في مؤخرة التصنيف دولياً، وهذه الوسائل المادية والبشرية التي تزخر بها بلادنا، تصنفنا في مؤخرة المدارس العربية، أي خلف أقرب البلدان العربية إلينا، وهي تونس والمغرب، فبأي منطق، وبأي عقل يمكن أن نبرر هذا التأخر؟ هل بحذف البسملة؟ أم هل بإلغاء التربية الإسلامية؟ أم هل بإحلال الدارجة العامية بدل الفصحى العربية؟
تالله إننا لفي حيرة من أمرنا! وإلا كيف نبرر للعالم، وللأجيال الغابرة، والقادمة هذا التقهقر الذي تعانيه؟ وهذا التردي الذي نحن فيه؟ والأغرب من كل هذا أن يمر التصنيف أمام أعين ومرأى كل المسؤولين، ولا يحركون ساكناً، فأين المتباكون على علمية المدرسة الجزائرية، وعلمانيتها، وإنسانيتها، وعالميتها؟ أيكون ذلك، بهذا التصنيف المتقهقر، وهذه الفضيحة التربوية لنا بين الأمم؟
ألم تعد الحاجة ماسة –اليوم أكثر من أي وقت مضى- إلى القيام بإصلاح “الإصلاح” الذي حكم علينا بالتخلف، فشوه سمعتنا، وغيّر سحنتنا، وأذهب شحنتنا؟
ألسنا نحصد اليوم، ثمار ما زرعته المظلومة التربوية، في شكل هذا العنف الذي تعانيه مدارسنا، والقبح الذي يشوه شكل أجيالنا، والتنكر للوطن، وللقيم، الذي يستبد بنخبنا؟ أليست هذه المقدمة الفاسدة التي تمثلها المنظومة التربوية، هي التي أدت إلى سوء أحوال المنظومة الصحية، التي تزيد المريض مرضاً، وتجدد للفقير حزنه، وللمصاب ألمه، فينعكس ذلك كله على الصحة البدنية، والصحة العقلية للمواطنين؟
لقد تشابكت، العوامل السلبية في منظومتنا الوطنية ككل، فتجلى فيها، هذا القتل، الذي أصبح سمة الطفل بأخيه، والأب بذويه، والتلميذ بمعلميه، وما ذلك إلا لأننا نعلّم ولا نربي، وإذا علّمنا فأي نوع من التعليم نعلّم، وأي منهج من المناهج نطبق. لقد صدق فينا قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
نحن –إذن في ضوء هذه المعطيات كلها- مدعوون إلى إعادة النظر في كل جوانب منظومتنا الوطنية ثقافياً، وتربوياً، واقتصادياً، واجتماعياً، إذا أردنا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه، وأن نعيد وضع أسس البناء الصلب المضاد للعنف، والمضاد للخيانة، والمضاد لكل أنواع الفساد، حتى نقيم المجتمع الجزائري الأفضل، الذي حلم به الشهداء، وخطط له العلماء، ودعا إليه المصلحون الصلحاء، وناضل من أجله الوطنيون المخلصون الأصفياء. ولكي يتحقق ذلك لا يمكن الاعتماد –في السياق- على الجواد الخاسر، فكل من ثبت فشله، في ميدان من الميادين، يجب تغييره، إذ لا يمكن الرهان على الجواد الخاسر، ومن أجل ذلك، ينبغي الاستعانة، لأداء المسؤولية البلدية، والولائية، والوطنية، بالكفاءات المخلصة، الصادقة، الواعية بواقع الوطن، والمؤمنة بضرورة صنع مستقبله الأفضل.
إن وطننا والحمد لله، يزخر بالقدرات العلمية، والمؤهلات العالمية، والخبرات الدولية، ممن لم يلوثوا بعد، بسلبيات المسؤولية.
إنه ليؤلمنا، أن نقول بأنه قد تاه في درب الضياع شراعنا، مع الاعتذار للشارع السوري عمار رجب تباب، وأن قوارب السفينة، ترسل بنداءات استعانة وطلب النجدة، فهل تجد هذه النداءات آذانا صاغية، وهل ما زال في وطننا، من تؤرقه هذه النّداءات، ومن يقض مضجعه، ما يعانيه الوطن، على أكثر من صعيد؟
إننا بالرغم –من كل السلبيات- قوم مسلمون، وطنيون، نؤمن بحقيقة الوطنية، ولذلك سنظل متفائلين، بأن يهيء الله لهذه الأمة، من يبرم لها أمر رشدها، فينقذها من حافة الهاوية، ويضعها على السكة الصحيحة المستقيمة، خصوصاً ونحن شعب منا الصالحون، ومنا المصلحون، ومنا المجاهدون، ومنا الاستشهاديون، وكلّهم ذوو دعاء مستجاب، فلتحقق إليه دعاء الصادقين منا، ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[سورة الأعراف/ الآية 128].