حق الرعية في النصيحة وواجب أولي الأمر الإلزامُ بالفريضة

الشيخ محمد مكركب أبران/
من واجبات أولي الأمر من العلماء والحكام والرؤساء والوزراء والولاة أن ينصحوا الناس ومن النصح إلزام الرعية بأداء كل الفرائض العملية العينية ومنها: الصلاة، والزكاة، والصيام على المستطيع. كما يقتضي واجبُ أولي الأمر في نصح الرعية أن يُلْزِموا كل فرد من أبناء الوطن باجتناب المحرمات، ومنها: أن يمنعوا الناس من عصر الخمور وبيعها، ومن التعامل بالربا، ومن كل ما حرمه الدين. فقد فرض الله سبحانه على أولي الأمر الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فقال سبحانه وتعالى:﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104)
قال العالم القاضي المفسّر عبد الله بْنُ عمر بن علي البيضاوي الشيرازي، (توفي:685ه). {والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به. والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر} (2/32). والله تعالى يزع بالسلطان ما لم يزعه بالقرآن. وفي تفسير عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي (توفي:875): {قال: ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأنْ يَدْعُوا جميعَ العَالَمِ إلى الخَيْر، فيَدْعُون الكُفَّار إلى الإسلامِ، والعُصَاةَ إلى الطاعةِ، ويكونُ كلُّ واحدٍ في هذه الأمور على منزلته من العلْمِ والقدرةِ. قال: وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: [مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَان] والناسُ في الأمر بالمعروفِ وتغْييرِ المُنْكَرِ على مراتِبَ، فَفَرْضُ العلماءِ فيه تنبيهُ الولاةِ، وحَمْلُهُمْ على جَادَّة العلْمِ، وفرضُ الولاةِ تَغْييره بقوَّتهم وسلطانِهِمْ}(2/88). فموضوع الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض كفاية على الأمة، واجب على كل من يستطيع (الاستطاعة العلمية، والاستطاعة السلطوية) وهذا إرشاد من الله للمؤمنين على أن يكون منهم جماعة، وهي ما يعرف برجال الحسبة (الهيئة الحكومية التي من واجبها أن تحاسب الناس بتوجيههم وإرشادهم إلى العمل بما شرع الله سبحانه، وزجر من يخالف الشرع، وإلزامه بأحكام الشريعة) ومنهم العلماء والوعاظ، فكان الواجب على الأمة تنصيب المفتي العام الذي يشرف على هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإلزام الناس بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج على المستطيع، وغير ذلك من شرائع الإسلام، ومنه: تفقد التجار في الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وفي الإدارة، وكل المجالات الحيوية في البلاد.
وقلنا: إن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من حق الرعية في النصيحة، وهو: واجب أولي الأمر في الإلزام بالفريضة، وهذا ما يغفل عنه كثير من ولاة الأمور في البلدان الإسلامية ويظنون أنهم غير ملزمين بذلك، والحقيقة أن ولاة الأمور من العلماء والحكام والمسؤولين كل واحد في منصبه، أنهم يُسْألون عن فريضة نصح الرعية. بنص ما ورد في القرآن، ومنه هذه الآية (3/104) والآية: (22/41) وبما ورد في الحديث. ومنه هذا الحديث، فعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: [يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا] (مسلم:1825) لأن من يتولى شؤون المسلمين، كتسيير بلدية، أو ولاية، أو وزارة، أو حكومة، أو رئاسة، أو مملكة. [كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته] فرئيس البلدية على مستوى بلديته مسؤول عن كل محروم، أو محتاج، أو يتيم ضاع حقه، أو شاب لم يجد من يُعَلِّمه ويوجهه، وعن كل أرملة أو مسكين، وعن كل من لم يجد مقعدا للدراسة، وعن كل مريض لا يجد دواء، أو سريرا للعلاج في المستشفى، وعن الطرق، والماء، والكهرباء، وكل حاجات المدنية الضرورية. وهكذا الوالي على مستوى ولايته، والوزير على مستوى وزارته، والرئيس على مستوى دولته. فعن عبد الرحمن بن شماسة، قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير (وفي وقتنا هذا وسائل الموصلات)، والعبد فيعطيه العبد، (وفي وقتنا هذا من يحتاج إلى خدمة ضرورية فيلبيها له) ويحتاج إلى النفقة، فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي، أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في بيتي هذا: [اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ](مسلم: 1828) وفي الحديث أيضا: [مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ] والمير أمير في حدود بلديته، والوالي أمير في حدود ولايته، وقائد الجيش أمير على كتيبته أو جيشه يقودهم إلى الخير بالعلم والشرع، بما يرضاه الله تعالى، والأمير المؤمن العاقل من كل هؤلاء هو الذي لا يأمر بأمر إلا إذا علم أن ذلك الأمر موافق للشرع، حتى لا يندم يوم القيامة. فهذا سيدنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، يخاطبه الله سبحانه ويأمره والمؤمنين جميعا. فقال تبارك وتعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ (سورة هود:112/113) قال القرطبي: {قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته}.
ولا يجوز لعامل أو موظف أو مسئول أن يعمل بما يخالف الشرع، ويبرر عمله بأنه مأمور، فمن أُمِرَ بمنكر، فلا ينفذه، ومن أمر بمعروف فليطع. ففي الحديث: [عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ] (مسلم:1839).
ونحن نُذَكِّرُ ولاة المسلمين بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر بأنه إذا خالف الناس الشريعة وارتكبوا الموبقات حدثت الكوارث والأزمات، وقويت شوكة الكفار على المؤمنين. عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم](ابن ماجة: 4019).