ليتفكروا

التعليم مقصد قرآني

د. بدران بن الحسن */

أشرنا في مقالات سابقة إلى مركزية العلم في الخطاب القرآني وفي السنة النبوية وفي سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم.- ولعلّ هذا الاحتفاء بالعلم والتعليم ينبهنا إلى أنّ طريق فلاحنا في الدنيا والآخرة هو العلم والتعليم، وأنّ علينا في مجتمعاتنا وفي سياسات بلداننا أن نهتم بالتعليم، لأنّه هو السبيل إلى معرفة الله، وإلى تحقيق إنسانية الإنسان، والطريق إلى تحقيق العمران.
وكما يقول الدكتور عبد النور بزا (2018، 389 – 420)، فإنّ كلمة التعليم من أكثر الكلمات شيوعا في الخطاب الإلهي بجميع دلالاتها؛ وقد وردت بصيغ فعلية متعددة في آيات كثيرة؛ منها ما يفيد أن «فعل التعليم» من أظهر الأفعال الإلهية؛ كما في قوله تعالى:﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31) وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-4)
﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ (الكهف: 65) ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ (الأنبياء: 80) ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ (النساء: 113).
ومنها ما يدل على أن التعليم من أهم المهام الرسالية؛ لقوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ (البقرة: 129) وقوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151).
ومنها ما يعني أن التعليم من أبرز الوظائف الإنسانية؛ لقوله -عز وجل-: ﴿قال له موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ (الكهف: 66) وقوله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آل عمران: 79).
ولهذا، كان أول ما تلقاه أبونا آدم هو التعليم؛
﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة:31)، وأول ما تلقاه محمد -صلى الله عليه وسلم -في رسالته الخاتمة هو المر بالقراءة والتعليم؛ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1).
بل أن مقصد التعليم هو ما بعث من أجله النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الدكتور عبد النور بزا، كما هو المستفاد من قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2) وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151).
بل أن النبي -صلى الله عليه وسلم – خرج يوماً على أصحابه فوجدهم يقرؤون القرآن ويتعلمون فكان مما قال لهم: (وإنما بعثت معلما) (رواه ابن ماجة)، كما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً وميسراً) (رواه مسلم). ويقول معاوية بن الحكم يصف النبي -صلى الله عليه وسلم -: (فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله -صلى الله عليه وسلم – (رواه أبو داود).
إنّ هذه الآيات والأحاديث التي اوردناها في محورية العلم والتعليم، ليس الهدف منها إثبات أهمية العلم فقط، والتنبيه على ضرورة التعليم فحسب، بل التنبيه إلى أن التعليم كما جاء به القرآن وطبقه النبي صلى الله عليه وسلم صنع من الصحابة قادة أمة وحضارة، قدموا للإنسانية نماذج في مختلف مجالات الحياة.
وهذا ما ينبغي أن ننتبه له اليوم؛ أن يتوجه المسلمون إلى بناء حياتهم على العلم، وإعطاء أولوية كبيرة لإصلاح التعليم. لأنّ إصلاح التعليم مدخل لازم لإصلاح المجتمع وإصلاح الأمة؛ فبالتعليم نستطيع أن نصلح عالمنا الفكري، ونعيد تأسيس بنيان حضارتنا على أساس متين، كما تأسست عليه في دورتها الأولى على أيدي الجيل الأول من الصحابة، والتابعين، والسلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى. وكذلك ينبغي ربط التعليم بغاياته الدنيوية والأخروية، وربطه أيضا بغاية «هي أسمى وأعظم مما يبدو منها وهي إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها». وهذا لا يكون إلا من خلال إصلاح «المنهج» (ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص8)؛ لأنه يمنع المتعلم من الوقوع في آفة «التكديس» التي ذكرها مالك بن نبي.
بعبارة أخرى، فإن إصلاح وضعنا والخروج من التخلف وتحقيق النهضة، يمر حتما عبر تغيير الإنسان، وبناء إنسان جديد، تماماً كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم – حيث غير الإنسان، فتغير تاريخ العالم، وأثمر أمة وحضارة. وتغيير الانسان يمر حتما عبر تغيير وعيه وفكره وسلوكه وشخصيته، وهذا طريقه العلم.
ولعل هذا يذكرنا بقول ابن باديس -رحمه الله-: «لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنّما العلماء من الأمّة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كلّه، وصلاح المسلمين إنّما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنّما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم .
ولن يصلح العلماء إلاّ إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم، ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالما من علماء الإسلام يأخذ عنه النّاس دينهم ويقتدون به فيه. ولن يصلح هذا التعليم إلاّ إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته فيما كان يعلم -صلى الله عليه وآله وسلم – وفي صورة تعليمه» (آثار الإمام ابن باديس، ص4/78). وهذا ما يؤكد أن التعليم مقصد قرآني عظيم.
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com