حوار

البروفيســـــور الحـــاج أو حمـــنّــة دواق لـ «البصائر»: • الخطاب المسجدي الحالي مُقْعَدٌ..و أسيرُ التكرار !

سيجد القاريء في هذا الحوار صراحة غير معهودة، كما سيجد فيه «تلمّسا» لعيوبنا وجراحاتنا الدينية والفكرية ..وليس ذلك بغريب على هذه الشخصية الفكرية البروفيسور الحاج دواق…وإلى الحوار/…

حاوره الأستاذ: حسن خليفة/

دعنا نبدأ من حيث يجب أن يبدأ كل حوار …من هو الدكتور الحاج دواق ؟
– الحاج أوحمنه دواق ابن آيث منعه، وادي الماء، الأوراس الغربي/باتنة، أستاذ جامعي وباحث أكاديمي، اتسم مساري الفكري بالتطور والنضج عبر المرارة، لست ممن يزجي الفكرة بمران الفضول، وإنما أعكس معاناة الحياة التي عشناها. لست الوحيد من أبناء جيلي ممن تألّم، خاصّة وأننا ولدنا في مناطق جبلية، تحمل سمات الصفاء المعنوي والصدق إلى أبعد الحدود. أيضا الفقر الموروث من تجربة الاستعمارات المتوالية، التي اضطررنا لأجلها أن نسكن قمم الجبال، ولو ملكنا ما فوقها هروبا بخصوصياتنا لفعلنا.
دراستي الابتدائية اقتضت الانتقال الدائم ..
ثم إلى المتوسط..فرصة المتوسط تعرفنا من خلالها على الفكرة الإسلامية في المساجد وحلقاتها الخاصة، لكن مع تغليب الطابع الطفولي وقلّة الجدّية وتفضيل اللعب وقليل من الدراسة تحت الإكراه..ومنها إلى الثانوية منعرجي الكبير، ولقيا أستاذين غيّرا كياني: معلّم جمال وهبّول علي، أساتذة الأدب، وبقية أساتذتي، اكتشفت إمكانيات هائلة مخبّأة انطلقت وجاء سنوات التفوق، والحصول على البكالوريا ثالثا في الثانوية، تخصص الآداب.
في قسنطينة(الجامعة) وجدت نفسي في مدينة بعراقة وتاريخ. وفي قسم الفلسفة، حيث أساتذة الحوار والفكرة المنفتحة، تعلّمت منهم جميعا، استفدت الكثير وانخرطت في سياق التيار البنابي بإيجابية لا مثيل لها. مارسنا الدرس المعرفي في أعلى صوره، ووظفنا ذلك لتحقيق تفوقات مستمرة، مع أجواء الصراع مع التيارات الأخرى، وحمية الانتماء، ما أفادنا قوة الإيمان بالفكرة، وضرورة التقوى والتطور، ولكل شيء ضريبته. كنا منفتحين في المطالعة والدّرس لا نخاف الحقيقة، نقرأ الفلاسفة والأطروحات الإسلامية في تنوعها، وكنت أقول للأصدقاء أنا ابن الأقطاب الأربعة: مالك بن نبي، وسيد قطب، ومحمد باقر الصدر، وعلي شريعتي. تأثّرت بشخصيات دعوية، منهم أستاذنا الطيب برغوث، وأدين بالتفاتاتي الرؤيوية لأستاذنا عمار طسطاس من قسنطينة للعاصمة، بعد النجاح في الماجستير، ومنها عود إلى قسنطينة، بما تحمله، رفقة أخي وصديقي وتوأمي البروفيسور عبد العزيز بوالشعير. أنجزت أعمالا بحثية عن مالك بن نبي، وعن سبينوزا، وعن محمد أبو القاسم حاج حمد، طبعت فيما بعد، أنجزت مئات المحاضرات، وعشرات الدراسات، التي أتمنى تطويرها إلى كتب، وأنا بصدد ذلك الآن، إن أمهلنا الله سبحانه، وزاد لنا بسطة في كليهما، عمرا وعلما.
كيف تبدو لك أزمتــنا بصفة عامة …وما يمكن أن تقوله فيها ؟
– تواردت الأزمة إلينا من موارد شتى، وأخصها الوعي المنقسم على نفسه، لأنه لم يتركّب بعد، ولتشظيه لتناجز الولاءات فيه. أزمتنا ثقافية نعم. تعكس خللا رؤيويا مكينا، وعلته، مستدامة، لإصرارنا على الجوابين، من عالمين، لا نعيش كليهما. أحدهما تراثي ندعوه ليجيب عن مآزقنا باستمرار ونحمّله ما لا يطيق، لا لعجز فيه، ولكن لأنه من عالم تاريخي وحضاري آخر، وبهموم مختلفة، استعانت في زمنها بأدوات أدّت ما عليها وزيادة، أما استعادتها الشكلية إلى فضاء آخر غريب عنها يجعلها في غربة، وهنا أقصد الإجابات لأننا نلح عليها، ولا أعني نهائيا القيم ونظامها الذي شيّدت عليه تلك الإجابات.
وثانيها إصرارنا على النقل الحرفي للتجربة الغربية في الجواب، ونقحمها ضمن مسار مختلف، لأسئلة مباينة، اللّهم التقاطعات التي نشأت عن عالم الامبريالية وامتدادها الجائر إلى حياض العالم أجمعه، ونحن جزء منه. فحصلت القطائع، ولم نستفد من درس المراكمة في البذل المعرفي والمنهجي والتربوي والتدبيري الكفيل بتحقيق بناء الإنسان الواعي، القادر على بناء المجموع التاريخي المدرك لدوره ورسالته في الحياة.
نحن أبناء جيل ممزق، لم يعش العالمين، ويريد عيشهما عنوة، فانقذفَ في غربتين، أفرزتا لديه الكيان الجسداني هنا، والروح هناك، قابعة في قرن سابع لا تبرحه، أو في قرن واحد وعشرين لم تسهم في تشكيله وبنائه، وبين التيهين، نتلمّس العمل النوعي في بعض التجارب التي انتبهت، إلى طبيعة الأزمة، وأنها أزمة وعي أساسا، نشأت من نمط تفكير خاص، ولدته طريقة ما له، أعني منهج. وهنا نشأت الفوضى المتتابعة، من لدن التنظير، مرورا بالتقدير، إلى الخطاب والتعبير، وصولا إلى التسيير والتدبير.
ماهي مشكلات الفكر الإسلامي الحقيقية والعميقة حسب رأيك ؟
– مشكلات الفكر الإسلامي، لها صور عدة، تشرع عند المرجعية المؤسسة، وتمضي إلى الرؤية المستمدّة، فالمنهج المتوسّل، إلى النسق وعموم عناصر المشروع، فالتطبيقات والإجابات المفصّلة لروح المنطق والأصل المعرفي المولّد. أولا نفكر في الأزمة كما أسلفت، بأدوات غيرنا، قديمة، ومتخطّية، ولكل واحدة منهما مآزقها، ومكاسبها. لو كان الفضاء يسمح لتوسعت. لكن…يكفي أننا نقارب مشكلات العصر بوسائل من زمن آخر. ثم نردف مآزق الماضين ونحشرها ضمن عدم انطباق للفارق النوعي بين العقليتين والفهمين. ومن مظاهر ذلك انقلاب التراتب المرجعي، فحمّلنا القرآن خصائص البداوة التي عاشها المنظّرون الأول، وأضحى المعنى المترجم للمراد الإلهي لا يتخطى عمق اللغة التي كتب بها امرؤ القيس والنابغة الذبياني. فنفهم حكمة الله بضميمة لغتهما وأفقها التاريخي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. زيادة على سطوة المنزع التحديثي والذهان التجريحي الذي غطى على الروح الإنسانية للقرآن وقتل الأبعاد العالمية والكونية لقيمه، فوجدنا أنفسنا بين فسطاطين، أحدهما مطلق للإيمان، والأخر مطلق للكفر، وما يتسوجب مزاج التعالي والانكفاء والتسلّط ونفسية المختارين، تحت عنوان خيرية الأمة، فوجدنا حالنا لا يفترق عن النموذج الإسرائيلي، فننظر إلى نحن والأغيار. وفقدنا المناهج المركبة الممازجة لمكاسب العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، ثم المناهج المعنية بالدرس النقلي، جزأنا فتجزأنا، ولذلك حضور في طبيعة الرؤية المغامرة والمنفتحة والمنطلقة، فإذا بها تنغلق وتخاف وتتوجّس وتتهم، وتتكبّر على خلق الله سبحانه، وباسمه سبحانه. ولذلك تفاصيل لا يطيقها حوار واحد.
يلاحظ المتابع لكتاباتك وحواراتك تلك الجرأة الكبيرة في الطرح..أوضح لقراء البصائر وقارئاتها ذلك ؟
– الجرأة مسلكية نفسية وأخلاقية وعقلية، تترجم رغبة متألمة، تحاول الصراخ في وجه الأمة لتفويتها سنة الاجتهاد، وأن بابه لم يغلق، ومن يملك أن يقول أنه أغلق.
نحن في المدرسة السنية يفترض أن نكون أكثر المدافعين عن الاجتهاد، لأنه لا قداسة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على خلاف إخواننا في المدرسة الشيعية، فهم يؤمنون بأن عصر النص ممتد بعد النبي صلى الله عليه وآله، فوجدنا الحال منقلبا، وعوض أن نتجرأ على القول انكفأنا، وأضحينا نخاف العناوين والأشخاص، وكأننا نسبنا إليهم العصمة والقداسة المنتهية، رغم أنهم بأنفسهم تجاوزوا أساتذتهم وانتقدوهم، ويكفي أن الإمام الشافعي رضي الله عنه اجتهد خلاف أستاذه مالك رضي الله عنه مثلا، وله اجتهادان، أحدهما عراقي، وآخر مصري، هو لم يستقر ولم يثبت على رأي، أوَنجعل قوله قرآنا. مثلا حكّم عربية الجاهليين، لإدراك حكمة القول القرآني، وهذا مرعب منهجيا، مرعب جدا، ليس استأنس بها، وإنما جعلها عمدة، واشترط الفهم بضرورة الإحاطة بتلكم الاستعمالات اللغوية، وكما أقول ولله المثل الأعلى، جعلوا الله سبحانه يتكلم كامرئ القيس، والأخير قوله حجة على المعنى الإلهي، وخذ أي كتاب في التفسير لتتثبّت من تخريجي. وقس قيمية الفهم، من شرطية البيئة، وفي فتاواهم ما يشي بذلك، هل الكرامة لبني آدم، أم للمسلمين؟ المسلم طاهر قيميا، أم عنصريا وطبيعيا؟ لماذا الله سبحانه وتعالى يكرّم الإنسان، والفقهاء يجعلونه نجسا؟ لماذا المرأة والكلب يبطلان الصلاة إذا مرّا أمام المصلي؟ أمثلة فقط لتلقي المراد المنهجي الذي عوض أن يرفع من صنّف الناس إلى عرب وموالي، إلى قيم القرآن، فإذا بهم ينزلون بالقرآن إلى قيمهم.


•الخطاب المسجدي خاصة والخطاب الإسلامي عامة ..ماذا يمكن أن تقول عنهما؟
– الخطاب المسجدي الحالي مقعد، أسير التكرار، غير مستجد، أساليب التخويف والتهديد والوعيد، بضاعة عذاب القبور رائجة، لا حديث في المعنى، معنى الوجود، مكانة الإنسان، قيمة الإنسان العقائدية، إجابات الإسلام عن العدالة والحرية ونظام الحياة، بكافة نظمها، الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الصراخ ديدن الناجحين، الصوت الرخيم علامة القبول، الفهم لا يهم، يخاطب الأطباء وأستاذة الجامعات والثانويات والآخرين، بلغة عفّى عليها الزمن، وبأباطيل خرافية وأساطير لا تقنع صبيا، فما ظنّكم بما استجد من معارف علمية وتقنية وووو. إنهم لا يتجدّدون، يحفظون، يكرّرون خطب الأعوام الماضية، لا تحليل، لا استخدام للمناهج النفسية والتربوية والانثربولوجية، لا يبحثون لا يطالعون، وقد يقول القارئ الكريم هذه قسوة، واقعنا يشير إلى بلوانا، إذا درّس خطيب مفوه حافظ للنصوص والأشعار وزمجر بغضب ورفع صوته، يكون عالما نحريرا، وإذا خطب عالم مفكر مستخدم لأدوات مستحدثة جديدة، يتفلسف، وأتذكر هنا أحدهم، قائلا فلان عالم لا يشق له غبار، قال له صاحبه وهو يحاوره، ما الذي قاله لتحكم كذلك؟ ما الذي فهمته، قال وكيف أفهمه وهو عالم كبير كبير؟ المضامين الآليات والتطبيقات. هنا أعلنها صريحة وواضحة، كل خطيب لا يستجمع العلوم الإنسانية والاجتماعية، أقله في مبادئها لا يسمح له بالاقتراب من منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ناهيك عن العلوم الطبيعية وإوّالياتها، فالإجابة عن الإلحاد وإشكالياته، لا يحتاج لحفظ أشعار أبي العتاهية، رغم تبجيلنا لها وقد تربينا عليها. المناهج وفلسفاتها، أولا ثم العلوم النقلية وما يختص بما استجدّ منها. فقيه لا يعرف مناهج وائل حلاق في مشروع الشريعة، والدراسات الهيرمينوطيقية والتأويليات الجديدة، والانثربولوجية الدينية، ومقارنة الأديان، وعلم النفس الديني، وعلم الاجتماع الديني وووو لا يحق له نهائيا أن يقول أنا مجتهد، ناهيك عن مقارنة المذاهب الإسلامية وتنوعاتها، يشتري حاجاته عن أخيه الميزابي، ولا يعرف حرفا عن مذهبه الإباضي.

• أنت أكاديمي وباحث ..ما ذا تقول عن مؤسساتنا الجامعية؟
-مؤسساتنا الجامعية، تابعة، ولأنها كذلك فإنها لا تملك زمامها. التعيينات موجهة، القوانين فوقية. تشجيع البحث قياسا إلى ما يحتاجه غير وارد. لكن…قياسا إلى مستوى باحثينا والمنتمين إلى الجامعات المؤسسة الرسمية تقدمت خطوات، حيث تراجعنا نحن عنها بأميال. صرنا نؤدي دورا تعليميا لا بحثيا. بتقاليد غير أكاديمية، نغلب مصلحتنا في الترقيات على حساب الجهد العلمي المبرز والمعمّق. حتى ولو كانت الظروف قياسا إلى ما ينبغي دون المطلوب، لم نستثمر جديا ما بين أيدينا. آخر ما نفكّر فيه الاجتهاد العلمي والفكري، لا ندخل إلى مكتبات الكليات والأقسام والجامعة إلا لتحصيل تبرئات نهاية السنة علاقتنا بالكتاب تكاد تنعدم، تعطينا الدولة عطلا وتربصات علمية، قلما تجد من يشتري كتابا. أغلب أساتذتنا لا يمتلكون مكتبات خاصة، ولا يدخلون المكتبات إلا لإنجاز رسائلهم، ثم تنتهي علاقتهم بالبحث . نمارس تجميعا كميا لنترقى، أما أن يهمنا تجديد فكرة، وتدعيم منهج، وتأسيس نظرية، دون التخلّف العام، «وشكون نتا باش تلعبها باحث يضيف الجديد»، «كول واضرب النّح»، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
• هل هناك امكانية للاستدراك في هذ الباب؟
-الاستدراك ممكن جدا ويتم بـ: دمقرطة التسيير، تغليب البحث والمنجز الأكاديمي وإسقاطه على العمل البيداغوجي وليس العكس، الجامعة ليست دور حضانة للكبار، التنافس والبقاء للأصلح، وتكريس روح البحث وتجاوز ذهنية الاجتماعي في كل شيء، والحقوق المحصّلة ابتداء. والاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتجديد آليات الترقية العلمية، وتلافي الكم، والتركيز على القوانين من أسفل، وليس من أعلى، وتشكيل التكوين التخصصي في أقطاب، ومردود الجامعات يثمّن، ولا تساوى جميعها في العطاء، وفرق بين أستاذ يسافر ويحاضر ويكتب وينتج، وآخر يتوقف عند إتمام ترقيته. لذا النخبة ليست شهادات، إنها التزام رسالي وأداء علمي اجتهادي أساسا ينتج عن تحصيل الجديد، خاصة المترجم أو الأصلي بلغته الأم، ويتكرّس في المطالعة والندوات والمحاضرات، ويستحيل أن تبنى الجامعة قاطرة الجماعة، بعيدا عن النزاهة والتسيير الحر الديمقراطي ووضع التشريعات من أسفل، وإشراك القاعدة، لكن بالسّمات الحالية والنوعية الموجودة، نجدنا حيارى كيف نكسر طوق من يصلح من؟ التوأمة والانفتاح على المؤسسات الأكاديمية العربية والغربية ضرورة، لا خيار لنا معها، إسناد مهام لأساتذة مشاركين من الفضاءات الأخرى ليحدث التلاقح والتلاقي، وطباعة الكتب والمحاضرات التي تلقى في المدرجات، وهنا سيستبين المجتهد من الغوغلي نقلا وسلخا.
•مؤسسة مؤمنون بلا حدود …حّدثنا عنها وقد انتميت َ إليها…
– انتميت لمؤسسة مؤمنون بلا حدود مدة من الزمن، واستفدت من كم الصّلات التي كونتها مع الباحثين المسلمين والغربيين والعرب، تعلمت كيف أعيش في فضاء التنوع والاختلاف الأيديولوجي. انتقدنا النسق التديني المغلق وعملنا على تفكيك التطرفات وعمدنا في كل ما انجزناه لنشيع ثقافة الحوار والتلاقي والنقد المثمر والإيجابي. عملت براحة كبيرة، خاصة مع الأصدقاء المغاربة، والأحباب من سوريا والأردن، فمصر. وتونس. اجتمعت الأطياف الفكرية والمذهبية من عالمنا. استمعت للمسيحي، وللشيعي، وللعلماني، وللملحد، للمجتهد، للمتعصب…كانت تجربة جميلة. لم يكن مهمّا معرفة من يقف خلفها، بمقدار ما كان يحرّكني وبعض الأصدقاء، أن هذا فضاء جادّ، صحيح تغلّب عليه المتعلمنون خاصة، لم لا يكون لبصمتنا التدينية المتوازنة صوتها وحضورها، كما يسعون للجم غلواء التطرفات باسم الدين، فلنعمد إلى الشيء نفسه مع العلمانية والحداثوية والتنوير المزيف.
وفعلا أثّرنا في حركة البحث، وهذه شهادة لله، لم يُقَل لي يوما، لم كتبت كذلك ولم تكتب كذلك. كنت في حلّ من أمري، بل وترقيت وصرت رئيس قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة، اقترحت موضوعات ورشا وملفات قبلت بعد المناقشات العلمية.
تعلمت صرامة كبيرة، استفدت من أساليب التفكير المختلفة، تعرفت على المتعصبين التنويريين، اكتشفت المتعلمنين المعادين لكل ما هو ديني، اكتشفت علمانيين عانوا من سطوة القول الديني المغلق….ولما وجدنا أن لونا معينا أخذ يستشري ويطغى على حساب بقية الألوان، ولأن جيراننا الشرقيين غلبوا بنمطيتهم واستبدوا بعموم مجريات الملتقيات والندوات، واكتشفت أن ما يمكنني إضافته قد استنفد، وأن قبول بعض الممارسات الإقصائية ستجعلني أقبل ،على مضاضة، ما لا أرضاه، قرّرت الانسحاب بكل حب واحترام، كما انسحب خيرون متدينون كثر، وكان القرار لشهور وتنفيذه في فيفري 2017م. إذ استقلت بكامل إرادتي، رغم أني أشهد الله مرة ثانية أن المسيّرين خاصة الرئيس وأمناء المؤسسة تركوا في انطباعي حبا لا ينقطع واحتراما لا ينفد.
أما عن صلتها بالإمارات العربية المتحدة، فهي من يمولها، ويرعى أنشطتها. ويكرّس لطريقة معينة، كما في مؤسسة السلم، وغيرها، وبعض فقهائنا الجزائريين كل عام في أبو ظبي يحضرون المؤتمرات ويكتبون ويؤلفون، ويتلقّون مقابلا ماليا، لكن لأننا لا نرتدي عباءتهم، ولا ننتمي لجماعاتهم، ما يصدر منا غير مقبول. والحمد لله على هذه التجربة، والحمد لله أنني لم أكتب حرفا خلاف قناعتي، وموقعهم لا يزال يتضمن ما كتبته وأشرفت عليه، بمعية المرحوم الأخ العزيز الدكتور البشير ربوح رحمه الله، مساعدي، كما وعرفنا بكتابنا الجزائريين وباحثينا ومفكرينا، في مقالات ودراسات وحوارات وترجمات، وأذكر لما قيل لي إن الجزائر محيط عظيم يتضمن مستقبل المعرفة النقدية والمتنورة مغاربيا وعربيا، ولست نادما قيد أنملة عن تجربتي، رغم انفصالي عنها في أوجها وقوتها، ولكل وجهة هو موليها.
•أكثر نقدك يتجــه إلى خطابنا الديني …هل يمكن أن تصارحنا هنا لماذا ، وماهو هدفك من ذلك ؟
-خطابنا الديني لا يرقى إلى كونه منظومة ملتئمة، إنه مليء بالتناقضات والحدّية والانغلاق، ماضوي غالبا، يستجدي في كل صغيرة وكبيرة أقوال الماضين، يخاف على الأموات من الأحياء، وحان الوقت الذي يخاف فيه الأحياء على الأحياء من الأموات. مضامينه غير متجددة، لا تحتكم لمنجزات الإنسان المتفوقة في العلم والمعرفة ومسالك المعنى واليقين. نعرف إنسانا سبرانيا وعولميا وعابرا، بأدوات من عاش معزولا عن الناس، ولما خرج إليهم خرج مذهولا، وليس كما يشاع خرج متفوقا، بالقوة نعم، لكن من الوجهة التاريخية من دخل الإسلام فيما بعد هم من رفعه وقوّاه، وهم من جعله يتراجع ويضعف بالانقسامات والتشرذمات جراء التعالي والعنصري التي تعرضوا لها. خطابنا جعل الروح القرآنية آخر اهتمامه وعنايته، أقولها لك أخي العزيز الإسلام الرباني منسي. والإسلام المنشّأ تحت ألوان الانقلابات التاريخية هو الغالب. بكل حب وباحترام جم، حانت الساعة التي فيها نستعيد الإسلام المنسي، إسلام القرآن أولا، ثم إسلام المصادر الأخرى الخاضعة لضوء القرآن وهدايته، الإسلام المستفيد من منجزات البشر كحكمة ضالة، حيث ما وجدها التقطها، إسلام محوره الإنسان مع الله سبحانه، وليس إسلام الله فقط أو الإنسان فقط، نحن معنيون باستعادة التوازن في محاور الوجود، الله سبحانه، مع البشر، مع الكون، مع الحياة، مع التاريخ. التنابذ الذي أورثناه التدين الحدي المغلق المتمحور حول لاهوت سماوي مقصٍ لكل بادرة توافق، نتخطاه تدينا وقربة، نعيد التواشج لمصادر الحقيقة، والارتباط لمسالك اليقين، ولغايات السعي والكدح، نبحث عن الإنسان المكرّم، ننافح عنه، نستعيده من براثن الإلغائيات والعدميات المقيتة، سواء باسم الدين، وباسم الدين خاصة، أو باسم العلم، أو باسم الحرية. نبحث عن الإنسان مع الله، يكون الله سبحانه معه، محبا رحيما مشفقا، نتجاوز النزعات التأثيمية المخيفة المعادية لحرية البشر وانطلاقه. الدنيا مزرعة، والآخرة حصاد، والمخطئ يثوب ويرجع، والمحاولة تقتضي الخطأ لا الخطيئة، ونبحث عن المعنوية والجمالية في كل صقع وأرض، ونتواضع للناس، أيها المسلمون أنتم جزء من الناس ولستم الناس.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com