فــــنّ حُســن عـــرض الإســـــلام

عبد العزيز كحيل/
كثيرا ما كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يتضايق من سوء عرض المسلمين لإسلامهم، فهو بضاعة جيدة تحتاج إلى تاجر ذكي أريب يحسن عرضها لتستقطب المعجبين والزبائن، وجاء تضايقه رحمه الله من تركيز بعض الجماعات الإسلامية على الفروع وإهمالها للأصول، واستغراقها في الجزئيات مع الإعراض عن الكليات، وانتهاجها أسلوب التنفير والتعسير… وعندنا في تاريخنا نموذجان يلخصان روعة العرض الدعوي، هما خطاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي، وخطاب ربعي بن عامر رضي الله عنه أمام رستم.
1. جعفر بن أبي طالب يعرض الإسلام.
عندما تكلم جعفر باسم المسلمين أمام ملك الحبشة قسم خطابه إلى مقاطع عدة – كما يلاحظ د. راغب السرجاني – يحمل كل منها معنى معينا، ويصل إلى هدف خاص.
بدأ بفضح الجاهلية، فقال: «أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف».
هنا قام بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، ووفد قريش حاضر، وهو معني بهذا الوصف.
ولا شك أن عبارة «يأكل القوي منا الضعيف» تؤثر في ملك عادل لا يُظلم عنده أحد.
ثم انتقل جعفر إلى البعثة النبوية والشمائل المحمدية قبلها، فقال: «فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه».
أي أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلا أفَّاكا كذابا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق الأنساب، وهذا ما لا يمكن للوفد القرشي الحاضر في المجلس إنكاره.
بعدها قام جعفر برسم لوحة الإسلام الرائعة، فبعد أن عرض صورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، فقال: «فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا».
ثم عمد إلى ذكر ظلم القرشيين للمؤمنين من غير وجه حق، وهذا – مرة أخرى من شأنه التأثير في الملك العادل – فقال: «فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث»… وهذا الكلام عن صور التعذيب والابتلاء يستهوي قلوب النصارى كثيرا، ويذكرهم بالحواريين الذين عُذبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب، ويذكرهم بصورة المسيح المضطهد كما ورد في كتبهم.
بهذا سيطر جعفر تماما على مشاعر النجاشي ومشاعر الأساقفة من حوله، وقد ختم بيانه هذا بمقطع سياسي حكيم قال فيه: «فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك».
وهنا – وفي صدقٍ تام وفي غير نفاق ولا كذب- يرفع جعفر من شأن النجاشي، فيذكر أفضليته على من سواه في مثل مكانه، ويرفع من قيمة العدل عنده، وهو بذلك يكسب قلبه، فيلين جانبه وتهدأ نفسه، فلا يتسرع بحكم، ولا يجور في قضاء.
وعندما طلب منه النجاشي أن يسمعه شيئا من القرآن وُفق جعفر في الاختيار، وكان قمة في الذكاء إذ قرأ عليه سورة مريم التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى، أي تتناول رموز النصارى بالذكر العطر، وهذا من شأنه تأليف قلوبهم، فلم يتحملوا أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا وفد قريش حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين.
وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.
هكذا ظهرت براعة جعفر في حسن عرض الإسلام.
2. ربعي بن عامر يبيّن مقاصد الإسلام.
في معركة القادسية، بعث سعد بن أبي وقاض رضي الله عنه رسولاً إلى رستم قائد الفرس (وهو ربعي بن عامر) فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق المذهَّبة، والزَّرابي الحريرية، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وقد جلس رستم على سرير من ذهب وعليه تاجه المرصّع، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتِكم وإِنما جئتكم حين دعوتموني، فإما تركتموني هكذا وإِلا رجعت، فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام.
انظروا إلى عزة المسلم أمام العدو، وانظروا إلى ربعي كيف بيّن مقاصد الإسلام: التوحيد، الحرية، العدل.