واجب الاقتداء بالأنبياء في الإيمان، والعمران، والْحُكْمِ، والبناء

أ. محمد مكركب/
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وذلك بالعمل بالقرآن والسنة، وأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، باتباع ملة إبراهيم، والاقتداء بهدى الأنبياء السابقين، ليس في فروع شرائعهم، وإنّما في أصول الدين، لأن الأنبياء إخوة دينهم واحد. قال الله تعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنعام:90) والاقتداء الاتباع والسير على هداهم، لأن هداهم من هدى الله تعالى، ومن ذلك: الصبر كما صبروا، والتبليغ كما بلغوا، والدعوة، والتعليم، وغير ذلك من أصول الرسالات الإلهية. وبما أن القرآن هو الرسالة الخاتمة والعامة والشاملة والدائمة إلى قيام الساعة كان الواجب على هذه الأمة، أمة الدعوة، أي كل النّاس، من يهود، ونصارى، وعرب، وهنود، وغيرهم، الواجب عليهم أن يتبعوا محمدا عليه الصلاة والسلام، وهم بذلك كمن اتبع كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فكلّ النّاس ومنهم اليهود والنصارى الواجب عليهم أن يعملوا بالقرآن، فإن خالفوا القرآن، فلم يهتدوا، قال الله تعالى:﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.﴾ (سورة البقرة: 136،137).
فأصول الإيمان التي يجب أن يُقِرَّ بها ويلتزمها كل المؤمنين هي ما عَرَّفَهَا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، تلك الأصول المعروفة بأركان الإيمان. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: [أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ] (مسلم:8) وأنتم يامن تقرؤون البصائر تذكرون ما جاء في القرآن. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.﴾ حتى لا يقول أحد المعاندين والمجادلين بغير علم: إن الحديث خاص بالعرب. قال الإمام مسلم في صحيحه:{بَابُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَنَسْخِ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ. وفيه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ] (مسلم. 153)
وما معنى اتباع الأنبياء في العمران؟ لاشك أنك لازلت تحفظ الحديث. [كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ] ومعنى كلمة: (تسوسهم الأنبياء) قال: محمد فؤاد عبد الباقي:{أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، قال: والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه}.ففي قصة نوح، وداود، وسليمان، ويوسف، وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قواعد سياسية في الإصلاح والتسيير، وإقامة الصناعات، وتنمية وتطوير الفلاحة، وضبط الإدارة، وإعداد القوة الاقتصادية والدفاعية، والتربية والتعليم، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾. فأولوا الألباب عندما يقرأون قصص الأنبياء يتعلمون منها طرق الحياة والمعيشة في السياسة العمرانية. وأهم شيء في شؤون حياة المسلم في العمران، والمعاملات، هو العلم والحكمة والتدريب والتجربة. قال الله تعالى في بيان عن يوسف بن يعقوب عليهما السلام. ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.﴾ (يوسف:55) ما هي مؤهلات وزير الاقتصاد؟ أولا: يجب أن يتوفر في الوزير، وكل مسير، أن يكون متدينا متخلقا، وأهم أخلاقه: الصدق، والأمانة، والإخلاص، والزهد. ثانيا: العلم والخبرة. ثالثا: التضحية في خدمة الناس تقربا إلى الله سبحانه.
قال الله تعالى:﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.﴾ (النمل:15،16)
ومن بين أهم ما كان يمتاز به سلمان عليه السلام في إدارة مملكته هو النظام والانضباط والتحكم في التسيير والمراقبة.﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ﴾وبقدر ما كان سليمان صارما حازما، كان رحيما، عادلا، وهذه هي صفات الأمراء الصالحين. ويكفينا الخبر الصادق في القرآن عن سليمان عليه السلام، ونأخذ شيئا من مخيلة الشاعر النابغة عن فضل سليمان عليه السلام في التحكم والتسيير وإقامة العمران.
إلاَّ سُليمانَ، إذْ قالَ الإلَهُ لَهُ: قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ، فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وخَيِّسِ الْجِنَّ، إني قَدْ أذِنتُ لَهُمْ . يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفعْهُ بِطَاعَتِهِ. كَمَا أطَاعَكَ، وَادْلـُـلْـــهُ عَلَى الرَّشَدِ
ومَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً . تَنْهَى الظَّلُومَ، ولاَ تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
ومن الملوك الصالحين المصلحين ذو القرنين. ونماذج كثيرة في التاريخ لمن يريد أن يعتبر ويتعلم. قال الله تعالى عن ذي القرنين:﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا.﴾ (الكهف:84 ـ 88)
فما هو السبب الذي أوتيه ذو القرنين واتبعه فنجح ذلك النجاح الباهر؟ يسر الله له أسباب المُلك والسلطان، وأسباب الفتح والعمران، وفيلسان العرب:{والسَّبَبُ: كلُّ شيءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلى غَيْرِهِ؛ وَفِي نُسخةٍ: كلُّ شيءٍ يُتَوَسَّل بِهِ إِلى شيءٍ غيرِه، وَقَدْ تَسَبَّبَ إِليه، والجمعُ أَسْبابٌ؛ وكلُّ شيءٍ يُتَوصّلُ بِهِ إِلى الشيءِ، فَهُوَ سَبَبٌ.} (1/458) وأهم الأسباب {العلم، والمال، والصحة، والأولاد الصالحين، والقرابة المؤمنين العاقلين، والجند المخلصين، والعمال المدربين.} والله، عز وجل، مُسَبِّبُ الأسباب، ومنه التسبيب. وتسبب الإنسان: جعل شيئا، أو فعل شيئا ليتوصل به إلى غاية. فالله تعالى جعل الأرض ذلولا، وأجرى عليها الأنهار، وفجر المنابع والعيون، وسخر البحر ليأكلوا منه لحما طريا، ولتجري الفلك فيه بأمره سبحانه، وأنبت الشجر لمنافع عديدة، وصَلَّبَ الحجر لإعلاء صروح شديدة، وهدى الأنسان إلى تطويع النحاس والحديد، كل ذلك أسباب هيأها الخالق البارئ المصور. فمن اتبع تلك السنن الكونية، وتعلم الاستفادة من الكائنات الأرضية، أحسن العمران، وأجاد البنيان، ورضي عنه الرحمن سبحانه. ولذلك قالوا حسن السياسة قوامه ثلاثة: فقه التعامل مع الأنفس البشرية. وفقه التعامل مع السنن الكونية. وفقه العمل بالأحكام الشرعية. وأساس الكل الإيمان.