ليتفكروا

ثقافة العمل

د. بدران بن الحسن */

ذكرنا في مقالنا السابق أن الإسلام جاء ليؤسس حياتنا على أساس العلم بكل أبعاده، حتى يتحول العلم إلى ثقافة، وتصير ثقافتنا ثقافة علم وليس ثقافة خرافة أو اسطورة. ولكن ما ينبغي التأكيد عليه ان الإسلام أيضا جاء ليؤسس ثقافة العمل، بحيث يطلق قدرات الانسان وطاقاته ليسخر ما وهبه الله في هذا الوجود لتحقيق رسالته في الاستخلاف، فيحمل الأمانة باقتدار.
ولهذا فإن الناظر في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يجد تركيزا على توجيه الانسان للعمل؛ سواء عمل القلب أو عمل الجوارح كما يقول الامام الشاطبي. وبلغة مالك بن نبي، فإن الإسلام جاء ليعطي لوجود الانسان كامل أبعاده، ولهذا فإنه كما ركز على العلم، ركز على العمل. ولهذا أيضا نجد القرآن الكريم يامرنا بالعمل؛ مطلق العمل، كما في قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة: 105)، كما نجده يشنع على من يقول ولا يفعل، كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (الممتحنة: 2-3). كما نجد أحاديث كثيرة تأمر بالعمل وتنهى عن التبطل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يُحبُّ العبد المُحتَرف» (الطبراني والبيهقي)، و» إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ من العامل إذا عَمِلَ أن يُحْسِن» (البيهقي)، و«إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل» (أحمد)، و«إنَّ اللهَ كرِه لكم قيلَ وقالَ وكثرةَ السُّؤالِ وإضاعةَ المالِ» (ابن حبان)، وغيرها من الآيات والأحاديث.
والشواهد كثيرة على ما قامت عليه الثقافة الإسلامية من ارتباط العلم بالعمل، وأن العمل أحد الأبعاد المهمة في ثقافتنا، مثله مثل العلم. ولعل الامام البخاري حينما عنوان أحد أبواب صحيحه بقوله «باب العلم قبل العمل» ليدل دلالة صريحة على ارتباط العلم بالعمل، وأن العلم مقدمة للعمل، لأن الإسلام ليس فلسفة تأملية نظرية، ولكنه منهج حياة كامل.
ولكن ما نلاحظه اليوم أن تفكيرنا وثقافتنا صارت في معظمها نظرية غير مرتبطة بأهداف عملية، وأغلب من يسمون أنفسهم بدعاة التغيير يكثرون الكلام من دون أن يكون لذلك أي انعكاس ايجابي على الواقع. بالرغم من أن ما يفصل المجتمعات اليوم هو مدى فعاليتها، وتحقق مبادئها وأفكارها في صورة أعمال لها كثافة الواقع – كما يقول مالك بن نبي- حيث يوجد في عصرنا تشابه واختلاف بين المجتمعات، والاختلاف اللافت للنظر يكمن فيما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، هذا العنصر الذي أصبح أساسيًا في ثقافة العصر (بن نبي، تأملات: 13).
حتى أن التقدم أو التأخر الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية، إذ يجده يقسم العالم إلى شطرين، أحدهما يتميز بالفعالية ويطبع بها كل جهوده وسلوكه، والآخر يتميز بغياب الفعالية، والتسيب في كل مظاهر حياته. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مشاهدة النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية التي توجد في كلا الإطارين الحضاريين. إذ يمكن رؤية نموذجين اجتماعيين مختلفين؛ أحدهـــما النــمــوذج الغـــربي يطـــبعه التنــــظــيم والفعالية في واقع حياته، والآخر النموذج المتخلف، تنتظمه ضروب من التسيب وغياب الفعالية. بالرغم من أننا لو رجعنا إلى التاريخ، لوجدنا الصورة معكوسة تمامًا، فكل ضروب النشاط والفعالية يجدها على محور طنجة-جاكرتا، وكل ضروب التسيب وغياب الفعالية يجدها على المحور الغربي.
وهذا يدل على أن نمط الثقافة الذي نعيش في ظله اليوم ليس ثقافة العلم التي ذكرناها في المقال السابق، ولا ثقافة العمل التي نتحدث عنها اليوم. وهذا يدل على خلل كبير ليس في القرآن ولا السنة، لأن نصوصهما هي نفسها التي تؤسس للفعالية وتشنع على التبطل والبطالة، وإنما خلل في ثقافتنا اليوم التي تطبع الانسان المسلم بطابعها؛ فينشا في وسط التسيب والفوضى والكسل، والفصام بين القول والفعل، حتى صار المسلم يحمل في ثقافته اليوم ضروبا من «الأفكار الميتة» ومن «الأفكار المميتة» التي شلت قدرته على تحويل أفكاره إلى عمل واقعي يخرجنا من التخلف، ويحقق ثقافة العلم والعمل. (بن نبي، تأملات: 11-112).
ولنستعيد ثقافة العمل علينا أن نعمل على تحديد نموذجنا الحضاري الذي نحقق به وجودنا، ونخرج من دائرة التبعية والتقليد للنموذج الحضاري الغربي، الذي يبدو أنه فاض علينا بفوضاه، ولم نتعلم منه درس التحضر وقيمه المثمرة وفضائله، بل اكتفينا بتكديس منتجاته وأفكاره «المميتة»، ولا حققنا نموذجنا الخاص بنا (بن نبي، شروط النهضة: 46-40).
وهذا النموذج الذي يخرجنا من وضعنا، هو العودة إلى القرآن؛ إلى المنهج النبوي، في بناء ثقافة تقوم على الربط بين العلم والعمل، والتربية على الجمع بينهما، والموازنة بينهما، بما يقتضيه وضعنا الحضاري اليوم الذي يتطلب ثقافة فعالية نستعيد بها دورنا، وبما يعطيه لنا القرآن من رؤية ومنهج وقيم وتصورات تحقق ذاتنا الحضارية. «فلا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها، بل عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته. أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب فإن في ذلك تضييعا للجهد ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار»(بن نبي، شروط النهضة، 65-64). وأمتنا اليوم تحتاج ثقافة عمل؛ ثقافة فعالية قصوى، لنستدرك ما فاتنا من إنجازات سبقتنا إليها أمم أخرى.
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com