الحـــق الـمر

عباقــــرة البشـــر…

يكتبه د. محمّد قماري/

كتب الأديب الكبير عباس محمود العقاد سلسلة من الكتب، اختار لها عنوانا جامعًا (العبقريات)، ونحا المرحوم العقاد في عرض عبقرياته منهجًا متفردا، إذ اعتاد أغلب المتحدثين في كتابة السير أن يغرقوا في المدح وسرد المحاسن إلى حد يخيّل إليك أنك بصدد ملك كريم، كما يقف من شخصيات أخرى موقف المجرّح الذام فلا تكاد ترى خصلة تحمد لتلك الشخصيّة…
أما شخصيات العقاد فهي أفراد من البشر، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، لها ملامحها النفسيّة بتطلعاتها وأشواقها، وتركن إلى رصيد نفسي اكتسبته من واقع ماضيها وحاضرها، وكل ذلك لا يعيب ولا يخدش تطلعها لخصال العظمة، وطلب الرفعة والسؤدد، ولعل هذا ما فهمته أمم كثيرة إذ تتلمس مواطن التميّز والبطولة بين أبنائها، وتجعل منهم نماذج للبطولة والتضحية، بل إن شعوبا مضت في صنع أبطال لها ولو كان نصيبهم من البطولة متواضع…
وإنه ليحزنني أن أقرر بأن محترفي الغزو الثقافي وبث السموم في مجتمعاتنا، يعملون منذ زمن طويل على طمس كل معالم البطولة في مجتمعاتنا، وتحقير كل منجزات أبطالنا في القديم والحديث، وعرض تاريخنا على شاكلة سلسلة لا متناهية من المؤامرات والدسائس، ولعل الأخطر من ذلك هو تجاوز حدود البشر في تشريح أفعال أولئك الأبطال، ويستند المرجفون في تثبيت أراجيفهم على أحداث مبتوتة الصلة بسياقها أو باختلاق حوادث لا سند لها، وكل تلك الجهود تصب في مصب واحد هو زرع مركبات النقص، وترسيخ فكرة مفادها أننا متخلفون عن باقي الأمم بالطبع والخلقة…
لقد أوحت تلك الدوائر المشبوهة للدكتور طه حسين، رحمه الله، وهو طالب أن يجعل من ابن خلدون مرمى لسهام سامة، يضمنها رسالة الدكتوراه التي نالها من جامعة السربون، وعمل غيره على جعل الشاعر العظيم المتنبي، مجرد مرتزق سافل يتنقل في كسب قوته بين بلاط الأمراء والحكّام، ولا يكاد يخلو قطر من أقطارنا عبر تاريخنا الطويل يظهر فيه بطل إلا وكان هدفا لتلك السموم الخبيثة…
وتحرص تلك الدوائر على أن يكون البوق المروّج لتلك الأراجيف من أبناء جلدتنا، فيتحدث فينا الأجنبي بلساننا، ونتلقى الطعنات بسيوفنا، والثمن هو ضمان الترويج للبوق فيغدو مشهورا، والغريب أن أصل كلمة (الشهرة) في اللّغة العربيّة تعني الفضيحة، والرجل المشهور أو المرأة المشهورة هما من يتناقل الناس أخبار فضائحهم، ولأجل ذلك كانوا قديما يستعيذون بالله من الشهرة، وهي مفارقة عجيبة مع ما يحدث في هذا العصر، فالشهرة يسعى لها كثير من الخلق، حتى غدت من عبارات الثناء بين الناس، فتجد غاية ما يطلبه بعضهم أن يصير مشهورا أي مفضوحًا إذا أخذنا بالدلالة القديمة للكلمة…
كان الناس قديما يحرصون على بلوغ مرتبة (الأعلام)، يسعون إليها بالعمل والمنجزات الكبيرة التي تعود على مجتمعاتهم بالنفع، لقد كانت (الشهرة) تنال بالبطولة في ساحات القتال بين الفرسان، أو بالبطولة في مجالات التحصيل العلمي أو بإنفاق المال في سبيل خدمة المجتمع، وقديما قال المتنبي:
لولاَ المشقةُ ساد النَاس كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتّال
ورحم الله أبا المحّسد أبا الطيب، فهو لم يشهد عصرنا هذا، حيث تسلل لقيادة المجتمع الفكرية والسياسيّة والثقافيّة أناس لم يبذلوا من (مشقة) بذل البطولة أو الجود شيئا، وحالهم خال من كل مكرمّة تأهلهم لتقدم الصفوف، لكنهم أوتوا صفاقة وبلادة جعلتهم يتقدمون، وأعانهم هذا الإعلام الساحر الذي هو أشبه بكيمياء الحظ التي أشار إليها الشاعر ابن الرومي:
إن للحظ كيمياء إذا ما مس كلبا احاله انسانًا
يرفع الله مــــا يشاء متى شاء كائنا ما كانا
هذه الكيمياء التي أسهمت في رفع أقدار أناس، ما كان لها أن ترفع، وأصحابها لا حظ لهم من أخلاق (الأعلام) أو مواهبهم الذهنية أو النفسيّة، لكن كيمياء الإعلام بمساحيقها التي تجعل من الوجوه المشوهة وجوها جميلة، ومن أصحاب الملكات المتواضعة أصحاب فكر ورأي…
استحضرت كل تلك المشاهد، وأنا أتابع ما دار في الأيام الماضية من جدل على خلفية تصريح أدلى بهم أحدهم، إذ جمع غروره وتخرّس بما لا يليق في حق أبطال تاريخيين من أبطال الجزائر، وجال في خاطري صرخة تلك (الذبابة) وهي تهم بالطيران من فوق نخلة: تماسكي يا نخلة فإنني سأطير!
وإن اولئك الأبطال كالأشجار الطيبة (أصلها ثابت وفرعها في السماء)، وعلى رأسها الأمير الذي سلخ من زهرة شبابه سنوات على صهوة جواده يذيق الاستعمار الفرنسي وجنرالاته سوء العذاب حتى إذا فقد غدرا (زمالته) قال لأصحابه: لقد تخففننا من تبعات المال والولد، ولنقاتل في سبيل الله…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com