التـــربية بين الكم والكيف
أمال السائحي/
يعرف العلماء التربية لغةً: بأنها اسم مشتق من الربّ، يُقال: رَبَّه يُربِّه: أي كان له رَبّاً. وفيه [ألك نعمةٌ تُربيها] إي: تحفظها، وتُراعيها وتُربيِّها كما يُربي الرجل ولده. يُقال: رَبَّ فُلان ولده يَرُبُّه رَبَّاً ورَبَّتَه ورَبَّاه كله بمعنى واحد. وتعني كذلك «تغذية الجسم وتربيته بما يحتاج إليه من مأكل ومشرب ليشّب قوياً معافى قادراً على مواجهة تكاليف الحياة ومشقاتها. فتغذية الإنسان والوصول به إلى حد الكمال هو معنى التربية، ويقصد بهذا المفهوم كلّ ما يُغذي في الإنسان جسماً وعقلاً وروحاً وإحساساً ووجداناً وعاطفة».
والتربية اصطلاحاً: «يختلف تعريفها باختلاف المنطلقات الفلسفية، التي تسلكها الجماعات الإنسانية في تدريب أجيالها، وإرساء قِيمِها ومعتقداتها، وباختلاف الآراء حول مفهوم العملية التربوية وطرقها ووسائلها».
يقول الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه الذي عنوانه: (علامات على طريق، فهم الواقع): «على مدار التاريخ كان تطوير الواقع والارتقاء إلى معارج الكمال أحدَ الهموم الأساسية التي تشغل بال الناس، لكن المشكل الذي كان دائما يربك الإنسان أثناء بحثه في هذا الشأن هو الأسس والمبادئ والأدوات التي يحتاجها في انطلاقه في عملية التغيير»…. «وفي اعتقادي أن التقدم الحضاري يقوم على ثلاثة أمور مترابطة ومتكاملة: هي المعرفة، والتربية، والنظم والقوانين»..
فإذا أردنا أن نضع علامات على الطريق في الرؤية الاستشرافية للتربية والتعليم، فإن الاهتمام بالجانب المادي وحده بوضع ميزانية هائلة، أو وضع تجهيزات ومعدات متطورة لن يأتي بالنتيجة المرجوة وهذا ما أثبته الواقع الحي، بدليل تصاعد نسبة التسرب المدرسي في بلادنا الذي لم نفلح إلى حد الآن في امتصاصه عن طريق مؤسسات التكوين المهني.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: إلاما يرجع هذا العجز والقصور رغم توفر الأموال وحداثة المعدات؟
يعود ذلك في رأينا إلى شقين اثنين:
ـــ الشق الأول: هو عدم التكفل بحاجات المربي: والذي يتمثل في المعلم والأستاذ، والذي لديه حاجات ومطالب حياتية فإذا استمرت مشاكله اليومية وتراكمت عليه، مثل منغصات المواصلات، السكن، العمل، والصحة.. فإنه لن يكون بمقدوره أن يؤدي وظيفته كمرب على أتم وجه، ولا ينتظر منه أن يقوم بالمجهود المطلوب، ليرتقي بتلامذته ومنظومته التربوية، وهذا التسرب المدرسي الذي يزداد في كل عام دراسي جديد شاهد على ذلك، فأستاذ اليوم هو بحاجة ماسة إلى النظر إليه من هذا الجانب الإنساني حتى يتمكن من التفرغ بكليته إلى عمله ولا ينشغل بشيء آخر عنه.
ـــ أما الشق الثاني: فهو يتمثل في مضامين المناهج المدرسية وتكوين الأستاذ المربي، فبالنسبة لمضامين المناهج ينبغي أن تتكامل وتتضافر فيما بينها لتتوافق في تناغم تام مع متطلبات المجتمع وحاجاته، كما يفترض فيها أن تتجاوب مع قدرا ت التلميذ وتماشي نموها، وتساير تطورها، أما بالنسبة لتكوين المربي فكما أن الطب والهندسة اختصاص، فكذلك التربية اختصاص، فالمعلم والأستاذ خاصة في أطوار التعليم الثلاث لا يصلح لاستلام قسم ليدرس فيه لمجموعة التلاميذ لمجرد أنه حائز على شهادة الليسانس أو الماستر في الفيزياء أو الرياضيات أو الفلسفة أو التاريخ، بل يحتاج إلى تكوين مهني يؤهله للاضطلاع بمسؤولياته التربوية ويعرفه على خصائص التلميذ الذي سيتعامل معه داخل القسم، وتكوين عملي يعرفه بطرق وأساليب التعليم والتربية ويدربه عمليا على تطبيقاتها، كما ينبغي أن تجرى العملية التربوية والتعليمية وفقا لمخطط تربوي شامل دقيق، يرمي إلى إسهام المنظومة التربوية في تمكين المجتمع من تحقيق أهدافه وغاياته الكبرى التي يطمح إليها فلا يعقل أن يجري التعليم في فراغ، وبلا غاية مستهدفة مسبقا، وهذا ما نلاحظه على منظومتنا الحالية حيث نجد أن جامعاتنا تُفتتح بها شعب لا وجود لها في الوقع الحي، فيتكون الطلبة لسنين طويلة ويكلفون الدولة أموالا طائلة، وفي النهاية يجدون أنفسهم عاطلين بلا عمل ولا مستقبل. وهذا يعود إلى التركيز على الجانب الكمي وحده فقط.. فلا يمكن إذن بتاتا النهوض بجانب التربية والتعليم، إلا إذا تحول اهتمامنا من التركيز على الناحية الكمية إلى الاهتمام بالجانب الكيفي هو الآخر وإعطائه الأولوية التي يستحقها باعتباره هو الذي يعول عليه في تمكين المجتمع في نهاية المطاف من تحقيق مقاصده وإنجاز غاياته، ولاشك أن الالتفات إلى ناحية الكيفية لن يساعدنا في تحقيق مطالب المجتمع المادية فحسب، بل سيكون عونا لنا على استعادة قيمنا ومثلنا التي أهدرت فتسبب انهيارها في تضرر الأمن والسلم الاجتماعيين، كما سيسهم الاهتمام بهذه الناحية الكيفية إلى مساعدة المجتمع في تجاوز تناقضاته السياسية التي لو ترك لها الحبل على الغارب لانتهى بها المطاف إلى تقويض أسس وحدتنا الوطنية، وفي ذلك القضاء المبرم على المجتمع الجزائري برمته، فالمنظومة التربوية والتعليمية السليمة هي التي تضمن لمجتمعها الديمومة والاستمرار، والقدرة على مواكبة التطور، وهذا بتركيزها على تثبيت مقومات المجتمع وتدعيم وحدته وتماسكه، وتعمل على محاربة كل عوامل التفرقة والتمييز التي من شأن بقائها أن يثير الفتن ويؤجج الصراعات.
وملخص القول في هذا الصدد أن حرص الدول والمجتمعات على الاهتمام بالناحية الكيفية فيما تقدمه لأبنائها من تربية وتعليم، هو الضامن الفعلي لبقاء المجتمع وتطوره وقدرته على مواكبة الأحداث، وذلك ما ينبغي أن نضمنه نحن أيضا لأبنائنا وبناتنا، على أن يتم ذلك في إطارنا الثقافي والحضاري الذي ننتمي إليه.