أول مسجــــد بنــــاه العثمـــانيــــون فـــي القصبـــــة/ مسجــــد «سفيــر» معمـــارٌ عثمانيٌّ بلمسة مغاربية

روبورتاج: فاطمــة طاهي/
مسجد «صفر ابن عبد الله» أو باسمه الشهير جامع «سفير» تحفة معمارية لا تزال صامدة في أعالي القصبة تروي لنا تاريخ الحضارة العثمانية ممزوجا بروح مغاربية أندلسية أصيلة، هو معلم صنعه أولئك الذين قدسوا بيوت الله فشيدوها بأجود مواد البناء من الرخام والزليج والحطب العريق، وأوقفوا عليها كثيرا من أملاكهم، معلمُُ يعود بنا إلى الحقبة العثمانية وبالتحديد إلى عام 1534م، حيث تكفل بتمويل بنائه القائد العثماني «صفر ابن عبد الله» فخلده عبر التاريخ والأزمان.
الموقع والتأسيس..
يقع جامع سفير في وسط القصبة –الجزائر العاصمة- عند زاوية شارع الإخوة بشارة «كليبر سابقا» وشارع روان عبد الحميد «مونتابور سابقا»، وقد كان هذا الجامع في الأصل بالقسم الأعلى من القصبة المدعو بالجبل، واسم جامع سفير جاء تحريفا لاسم صفر نسبة إلى القائد العثماني «صفر ابن عبد الله».
بني جامع سفير في 14 ربيع الأول سنة 941هـ الموافق لـ 11 سبتمر 1534م، ويعد هذا المسجد أول جامع بناه العثمانيون بالقصبة، وقد حمل هذا المسجد العتيق التسمية الكاملة للقائد العثماني صفر ابن عبد الله، حيث كان يسمى مسجد «قايد صفر بن عبد الله»، ثم أصبح يسمى بمسجد «سفير»، ليأخذ بعد ذلك اسمه الحالي «جامع سفير»، ولقد أشرف القائد صفر بن عبد الله على تمويل بناء هذا المسجد وحرص على ألا ينقص شيء لإتمام الأشغال به، ما جعل عملية بنائه تستغرق تسعة أشهر فقط، ومن خطباء مسجد «سفير» أمثال الشيخ محمد الدواخ، والشيخ إبراهيم بوسحاقي، والشيخ محمد شارف، الشيخ أحمد بن تشيكو.
صفر ابن عبد الله القائد العثماني مؤسس مسجد «سفير»
كان «صفر بن عبد الله» من كبار قادة البحرية في عهد الإخوة بربروس، تقول الروايات أنه ذو أصول عثمانية، حيث دخل في الإسلام على يد القائد العثماني الكبير خير الدين بربروس، حيث كان صفر ابن عبد الله عبدا مسيحيا لخير الدين بربروس، فأعتقه هذا الأخير في فترة حكمه ما بين 1518م إلى غاية 1534م، وبعد اعتناقه الإسلام أخذ اسم عبد الله، وقيل أنه درس الإسلام وأتقن اللغة العربية وكان من حفظة القرآن الكريم، ورد اسمه في قصة حصار شارلكان في شهر أكتوبر من سنة 731هـ/1131م، وحسب المؤرخين يبقى اسمه الشخصي واسم عائلته مجهولا.
جامع بطراز عثماني وبلمسة مغاربية..
المتأمل في الهندسة المعمارية لمسجد «سفير» سيلمس روح الحضارة العثمانية لكن بطراز مغاربي، حيث يظهر مسجد سفير من الخارج بشكل مكعب، هذا المسجد بني على قطعة أرضية مستطيلة، ويحتل مساحة تقدر بحوالي 399.50 مترا مربعا.
ويتميز المسجد بواجهتين: الأولى رئيسية لها مدخلان يطلان على شارع الإخوة بشارة، والواجهة الثانية تطل على شارع عبد الحميد روان والذي يأخذنا مباشرة إلى حجرة الصلاة التي تتوسط المسجد وهي مربعة الشكل وتعلوها قبة كبيرة قاعدتها مثمنة الأضلاع، كما تتصل القبة بقاعة الصلاة بأربعة أعمدة.
لا يحتوي المسجد على زخرفات كثيرة، يقول المؤرخون إن هذا يرجع إلى المذهب الحنفي الذي كان مذهبا رسميا للدولة العثمانية.
كما أن الزائر لمسجد سفير سيلاحظ أن المحراب قد صنع بزخرفة خزفية وباستعمال ألوان متعددة، كما أن المتأمل في هذا المحراب يجده بطراز عثماني محض فمن خلال ألوانه وزخرفته نجده يشبه إلى حد كبير محاريب المساجد العثمانية مغطى بالزليج الأبيض والأزرق، وعلى يمين هذا المحراب نجد دكة المبلغ وهي خشبية الصنع، أو كما يسميها أهل القصبة بـ «سدة»، ترتكز هذه «السدة» على أربعة أعمدة مصنوعة من الحطب العريق يحيط بها درابيز، ويتوسط الدكة حنية صغيرة نصف دائرية اتجاهها نفس اتجاه المحراب، وإلى جانب المحراب منبر خشبي وقبو يحتوي على بيت الوضوء تتوسطه «فوارة» عثمانية مغاربية إضافة إلى أعمدة أو «عرصات» مصنوعة من الرخام من النوع الرفيع، ويتميز هذا المسجد بمئذنته ذات الأضلاع الثمانية التي ترجع إلى الأصل الشرقي الذي بدأ تأثيره يظهر على الطابع المغاربي ذي الأضلاع الأربعة، كما أن أسطح الأروقة المحيطة بالقبة المركزية تستند إلى صباطات وأقواس حادة ذات بناء أكثر بساطة وأكثر فعالية.
لوحات رخامية توثق لنا تاريخ جامع «سفير»
توجد بمسجد سفير لوحة رخامية وضعت عام 940هـ الموافق لـ 1534م، وقد ورد في هذه اللوحة اسم عبد الله صفر وأنه مملوك للسلطان الكبير المعظم الذي عرف بجهاده في سبيل الله خير الدين بربروس، حيث جاء فيها ما يلي:
“بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي رفع السماء وبسط الأرض وفضل بقاعها بعضا على بعض وجعل أفضلها بقاعا يؤدى فيها النفل والفرض، والصلاة والسلام على محمد الشفيع في يوم العرض وسلم تسليما وبعد، فهذا مسجد عظيم ومقام كريم أسس على التقوى وارتسمت على السعادة والتوفيق أرجاؤه وأركانه، وأمر ببنائه الفقير إلى مولاه مملوك مولانا السلطان الكبير المعظم الشهير المجاهد في سبيل رب العالمين مولانا خير الدين أيده الله ونصره وهو عبد الله سبحانه صفر غفر الله ذنبه، وكان ابتداؤه في شهر رجب الفرد من العام الفارط عن عام تاريخه والفراغ منه ثاني شهر ربيع الأول عام أحد وأربعين وتسعمائة جعل الله ذلك خالصا إلى وجهه الكريم».
وتوجد كذلك لوحة رخامية ثانية تبين تاريخ تجديده من طرف الداي حسين سنة 1242هـ 1827م وقد جاء فيها ما يلي: «بسم الله وأول الذكر الحمد للــــــه ونصلي على مـحـمـد امـتـثالا للأمر بالصلاة وبعد، فإن مما يسره اللــــــــــه وأولاه تـجـديد هذا المسجد للذكر والصـلاة، وكان ذلك من خــيـرات أسـعد الولاة المــخــلص في مصالح العباد لوجه اللــه، فكان التــاريخ لما جــدده وعــلاه مــوســومــا باسمه ووصفه الذي أعــــلاه وهــو جــدد الرســوم بـحــمــد الله حسين باشا المجاهد في سبيل الله سنة 1242هـ».
أوقاف جامع «سفير»
أوقف صفر ابن عبد الله على مسجد سفير في عام 1534م 100 هكتار من الأراضي، وفي وثيقة شرعية قديمة تعود إلى سنة 1534م والتي حررت من طرف القاضي الحنفي آنذاك حيث ذُكر فيها أن الباشا خير الدين بربروس أوقف على مسجد سفير عشر زويجات والتي تعادل بتربيعها عشرة هكتارات من الأرض تقع بناحية سيدي يخلف بقرب سطاوالي غربي مدينة الجزائر حيث يصرف دخلها على جامع القائد صفر بن عبد الله، وأوصى بأن هذا العقار «المزرعة» لا تجري عليه أية ضريبة، هذا بتاريخ منتصف ربيع الأول من سنة 941هـ الموافق لـشهر سبتمبر 1534م.
وفي عقد آخر جاء فيه أن الباشا خير الدين بربروس أوقف أرض طاحونة تقع في منطقة وادي الزويق بمقاطعة الجزائر، والتي بني عليها مبان القائد يحي بن عياد الجيجلي النجار الذي حرره مولاه الباشا المذكور.
كما تتابع الناس وتنافسوا بعد ذلك في تحبيس الأملاك وكثر المحبسون ولم يقتصر الأمر على جنس الرجال فقط فكان من النساء الكثير من المحبسات حتى اضطرت السلطة العثمانية إلى إصدار سجل ضخم عام 1717م مخصص لهذا الغرض.
وقد كانت أوقاف جامع سفير منضوية ضمن أوقاف مؤسسة سبل الخيرات المشرفة على أملاك مساجد القصبة داخل وخارج مدينة الجزائر وقد كانت الأملاك العقارية الموجودة على سجل جامع سفير منقسمة إلى قسمين:
أوقاف داخل مدينة الجزائر وبعضها تضمنت ما يلي: ثمانية عقود حانوت، وثلاثة عقود لأجزاء حانوت، دار واحدة، جزآن من دار، وثلاثة علويات، وبيتان وكوشة ومخزنان.
وأوقاف خارج مدينة الجزائر وتضمنت بعضها ثلاث جنات، بلدان اثنان والأملاك العقارية الموجودة على سجل الجامع الكبير.
الشيخ عبد الرحمن الجيلالي يتحدث عن ترميم جامع «سفير»
يذكر الشيخ عبد الرحمن الجيلالي أنه أعيد ترميم جامع سفير في عهد حسن باشا سنة 1185هـ 1771م، كما تم تجديده للمرة الثالثة سنة 1242هـ 1827م، في عهد حسين داي، حيث قال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي في هذا السياق: «ومن مآثره وخصاله الحميدة المشكورة الباقية على مر الأيام إلى اليوم تجديد جامع القائد صفر بن عبد الله القائم إلى اليوم بحي القصبة سنة 1242هـ 1827م،»كما ذكر الحاج أحمد شريف الزهار في مذكراته عن أعمال الداي حسين، قال أنه بنى برج باب البحر وطبانة في الصنانجية وبنى جامع سفير، حيث قام الداي حسين بتجديده وتوسيعه سنة 1826م.
مصير مسجد «سفير» إبان الاحتلال الفرنسي..
في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م شهد مسجد سفير أول تشويه له، حيث قام المحتل الفرنسي بتشويهه مما أثر على جانب من هندسته المعمارية الأصلية، لكن لحسن حظ لم يتم تحويل مسجد سفير إلى كنيسة حيث بقي يؤدي وظيفته الإسلامية لكن تحت أعين المراقبة الفرنسية الذين كانوا حذرين جدا مما قد يحاك ضدهم في مثل هذه الأماكن وفي غيرها والتي تكون مجمعا للسكان الجزائريين، وحسب بعض الباحثين أن سبب عدم تحويل هذا المسجد إلى كنيسة هو معرفة الفرنسيين بأن من بناه كان في أصله مسيحيا وذلك قبل إسلامه.
تصنيف جامع «سفير» كمعلم ثقافي محمي..
تم تصنيف مسجد سفير ضمن التراث الوطني العام من طرف إدارة الاحتلال الفرنسي مع مطلع القرن العشرين، وقد صُنّف فعليا ضمن الموروث التاريخي يوم 30 ماي 1905م.